حيطانٌ هشَّة

حيطانٌ هشَّة

اللوحة: الفنان السعودي عبد الرحمن السليمان

نهلاء توفيق

جاري هو جاري، منذُ خمسةَ عشر عامًا هو جاري، شباكُ مطبخُ بيتهِ مقابلٌ لشباكِ غرفةَ نومي؛ نتبادلُ التَّحيةَ صباحًا متى انتشرتْ رائحتانا في فضاء المناور، فيسقيني قهوتهُ أو أسقيهِ قهوتي.

جاري هو جاري، زوجته لا تفارقُ زوجتي، ولا يكاد يمرُّ يومٌ إلا وتتلاقحُ قِدْراهما، فإمّا المحشيُّ خاصّتها في بيتنا، وإما المربَّى خاصّةَ زوجتي في بيتهم.

جاري هو جاري، أطفالُنا وأطفالهم رائعون، جميلون، يلعبون، يتحاضنون، يبكونَ ويضحكونَ سويةً، يبدونَ للغريب إخوةً لا محالة، وكم من مرةٍ تنامُ صغيرتي المتملقة في سريرِ صغيرهم المشعوذ، عنوةً نسحبُها صباحًا بعد احتساءِ قهوتنا. 

جاري هو جاري، وجعي يُبكيه، وفرحهُ يسعدني، في أفراحنا حفلاتُنا متعاشقة، وعند أحزاننا تتلاقحُ دموعُنا، تمسحُ بعضها الأخرى فتُمحى آلامنا. 

جاري، كيف نخرجُ رحلةً بدونهم؟ وكيف نحتفلُ بفرحٍ دونهم؟ جاري، أستشيرهُ ويشيرُ عليّ، أحملُ عنه ويحملُ عني، كبرنا، وكبر جاري، كبر طفلانا، تعلَّقا ببعضهما وصارت كتُبهما متشابهة. 

يوما ما، قال لي جاري ونحن في رحلةٍ ممتعة: ما رأيكَ لو نعلنُ فرحهما؟ هما يلعبان الكرة ببراعة، ولكن ابني يفوز فهو الرجل، ضحكنا يومها كثيرًا، كثيرًا جدا، وأطلقتْ زوجةَ جاري زغرودةً خجولة، ولكنها قالت: لندعهما يكبران قليلًا. 

جاري ما زال جاري، إلى أن صحونا ذات يوم مذعورين لحدوثِ أمرٍ مرعب، إنه حدثٌ جَلَل، التلفاز يعلوُ صوته، يتأرجح، ارتجَّ بيتُنا، وبيتُ جاري! ترددتْ الشعارات، تعددت الاعلانات، وصُدعتْ رؤوسُنا بأغاني الوطنيات، انقطعَ الماء، تعشينا تمرا وكسراتِ خبزٍ كانتْ معلقةً بشباكِ المنور، صلَّينا على ضوءِ شمعة،

الناسُ يتراكضون، الناس خائفون، إطلاقاتٌ في الشوراع.. الناس في بيوتِهم يتابعونَ الأخبار، وفي الشوارعِ يقفونَ في الدور لرغيفِ خبز، الأطفال يتباكون، الشباب يهتفون، يتعارضون، يتضاربون، ثمَّ ينقسمونَ إلى صفين، ويبقون يهتفون. 

أنا أيضًا تملكتني الحميّةَ فهتفت، وكذا جاري، هتفَ بما لا يشبهُ كلماتي، عندما أقول: نعم، صداهُ يقول لا، وعندما أسمع منه: لا، أصيحُ بغضبٍ: نعم، نعم، جاري، لا يشبهني، أبدًا، لم نفتح الشبابيك، لم نخرج للمناور، لم نشمّ رائحة قهوتينا، جاري لم يعد هو جاري!

قلت له بصوتٍ حادّ: ابنتي لن تكون لابنك، رد بصوت أكثر حدّة: صباحا قررنا هذا ولكنك سبقتني في الحديث فقط، زوجة جاري لم تعد هي هي، لم تطعمنا طبقها الشهي، وحتى أنها لا تُشَغِّل ساحبة الهواء عندما تطبخ.. زوجتي أيضًا لم تعد زوجة جاره، فقد عملت المربَّى ورصَّتها في البرطمان، قالت لنا: أش أش،

أنا لم أعدْ جاره، هو لم يعد جاري، ولكن الحيطان متلاصقة.

قالت ابنتي: أنا أحبه، وكذا قال ابنه؛ هذا لم يعد يبكينا، لم نهتم، لم نفكر في حبهما، بل أخرسناهما، فالقلوب تحجرت، وكذا قلوب زوجاتنا، فجاري لم يعد جاري، رغم تلاصق الحيطان.

هدأ التلفاز، صدحَ بأغنيات الحبّ وأناشيد الوطن الجديد.. تخدّرت أكفنا ولم تعد تصفق، اقتنينا رشَّاشات لم نكن نعرفها يوم كان جاري حقًا جاري، خرجنا إلى المناور، تناقشنا، تجادلنا، علتْ أصواتُنا وكذا أصواتُ نسائنا، أشهرنا أسلحتنا في وجوه بعضنا، هدَّدنا؛ ثم دخلنا فأحكمنا غلقَ الأبواب. 

مؤكد نحن مختلفون، لأن جاري لا يشبهني، وأنا لا أشبهُه، هو أيضًا يعرف هذا جيّدًا، كيف لم ننتبه لهذا قبل أن يرتّجَ التلفاز؟ أنا وهو في دور الخبزِ لساعتين، عيني تهربُ من لُقيا عينه، وكذا عينُه.. نصيبهُ أربعةَ أرغفة، وأنا أعطوني رغيفين، نفد الخبز، خُطانا متثاقلةً إلى البيت، لم يعطني رغيفًا لنتساوى، لم أهتم لهذا، حتى إن حصل فلن أرضى، فهو لم يعدْ جاري، رغمَ أنَّ الحيطان متلاصقة.

رأي واحد على “حيطانٌ هشَّة

  1. الكل يقبض على شعار وكأنه يقبض على. قلبه وينقسم الناس بين نعم ولا… ولا يتحدون من أجل رغيف الخبز وشربة ماء .
    ويضيع الوطن بين نعم ولا..
    احسنت الصورة والايجاز
    هي هشاشة القلوب وليس الجدران

    إعجاب

اترك تعليقًا على هيام علي الجاويش إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.