اللوحة: الفنانة اليمنية هالة الزريقي
نهلاء توفيق

ردّدَ أبي هذا سبعين مرةً وأمي تزغرد بصوتٍ سمعه سابع جار:
– اسكتي يا امرأة، عيب، جيراننا مهمومون بشهدائهم.
سكتت أمي، وراح أبي يسمع الأخبار. لا أدري لمَ لمْ أفرح أنا، بل لمَ لمْ أصدق ولم أقتنع، أية حرب هذه! وهل فعلاً كنّا نخوض حرباً؟
نكزني أبي بعكازه: اذهب للسوق وأحضر ما طلبته منك.
كل الخضار تحملُ بصمتهم، نعم.. بساطيلهم تتجلى أمام ناظري فوق كل ورقةٍ وحبةِ ثمرة، سألتُ البائع باندهاش: هل ترى بصمة وجوههم على خضارك؟ ورسمة البسطال والبذلة هنا؟ أشم رائحة جيفةٍ أنا.
قهقه بصوتٍ مقزز: ياهذا أنا أعمى، ولدي تحسس في أنفي. ثم عطس، وعطس،
تركته وهو يعطسُ ويعطس.
***
وبخني أبي وهزأ بي. ونعتني بالجبان المستهتر بعد أن رجعتُ خالي اليدين؛ ذهبت أمي وجاءتنا بالكثير الكثير، وهي تؤكد لي أن البائع ليس أعمى بل هو معافىً وكله حيوية ونشاط وأني أتوهم هذا كله.
صرتُ أشكُ في ذاتي.. دباباتهم تسير، والناس تصفق، يضربون الأرض ضرباً فيثيرون التراب والأوساخ، ولكن أبي وأمي يؤكدون لي أنهم لم يروا هذا، وأني أتوهمه كله، وأن الهواء صافٍ نقيّ طيب.
***
بعيني رأيت أمل تهديهم الخبز الساخن والسمن والابتسامات، وهم يناولونها النقود والكثير من القبل.. أمل ترفض اتهامي بالخيانة، وتصرّ على أنها لم تبرح بيتهم منذ أن استشهد أخوها!
***
أحضروا لي الشيخ بعد إصرار أمي بأني لن أتعافى إلا إذا خرج الجنيّ مني. قيدوني لأني أرفض عصى الشيخ القاسية، فغبتُ في عالمٍ آخر.
***
صباحاً كنت أبيع لهم خمراً بسعرٍ عالٍ، وأم أمل تخبز من الصباح حتى المساء.. الخضرچي نظره ستة على ستة، عندما لاحق طفلاً سرق منه ربع دينار وهو لا يعطس.. خضاره طازجة ما شاء الله!
أحضرت الكثير من الخضروات التي رميتها في حضن أمي وهي فرحةً: صلوات على محمد، صلوات وسلام على آل محمد!
هذا الشيخ يستاهل عزومة كبيرة وليست خسارة فيه.. هذا ما ردده أبي بابتسامةٍ عريضة وبفرحٍ وهو يحضنني.
الحروب تفعل الكثير وعندما تنتهي تبقى اذنابها… ويسرف الوطن ابناءه يكتفون بلقمة العيش مهللون
إعجابإعجاب