الذين غزلوا برجل حمار

الذين غزلوا برجل حمار

د. الخطيب يسري

اللوحة: الفنانة الجزائرية حسينة بوغلام

مازال صاحبنا يجول في الأرجاء، يحجل بقوائمه الثلاثة الباقية بعد أن قطعوا ساقه الرابعة لتغزل بها فتاةٌ من (الشُطّار) فبعد أن عزّت المغازل عن فتيات قريتنا ونضُبت منابع الرزق وأُغلقت في وجوههن طاقات السعة، هجرن مشاغل الغزل واتجهّن للبحث عن لُقمة العيش في كل حدبٍ وصوب، حلالاً كان أم حراماً، فلم يعد يهُم، فالأفواه الفاغرة لا تنغلق إلا على قوت، ولم يبق في قريتنا الشاغرة إلا ثُلّةٌ قليلةٌ من الفتيات المثابرات، لم يهْجُرُهُنَّ الأمل، لم يفقدن الحلم بأن تقوم لقريتهن قائمةً مرةً أخرى، أطلق العامة عليهن مجازاً وصف الشُطّار، والشُطّار هنا لا تقوم مقام قاطعي الطريق، بل تصفُ المُصابين بالأمل، من لم يتوقفن عن محاولة المضّي قُدماً حين تغايرت الأحوال وتخلّى الناس، ففي خِضّم الخراب البادي، تحركت الفتاة العشرينية النحيلة في تَؤُدَه نحو حمارهم الوحيد الهزيل تُضْمِر شيئاً، تصلّبت يدها على مقبض المنشار، وحدها، لا يساعدها أحد ولا يأبه لما تفعله أحد، أمسكت ساق الحمار الغافل وهو يلوك وجبته الشحيحة من حشائش جانب الطريق، ارتعد جلده لحظياً ثم سكن للمستها فحاشاها أن تنتوي به مكروها، شرعت في نشر ساقه، جفل الحمار ونهق عالياً من فرط الألم، ماذا تفعل هذه المعتوهة؟ أو هكذا كان يجب أن يتساءل، ألقت المنشار جانباً وكتمت دمائِه النازفة بحفنةٍ من تراب الفُرن وضمَّدت الجُرح بخرقةٍ باليةٍ جذبتها من ذيل ملابسها المهترئة، كان شيْم العيون واحد، فسحّات الدموع تساوت بين عينيهما، مع فارق الشعور فألمه عضويّ وألمها نفسيّ،

ولّت إلى مغزلها صامتة، وحين تعالى صوت المغزل، كان الحمار يلوك الحشائش مرةً أخرى لا مبالياً، تطرد أذنيه المرتعشتين طنين الذباب عن وجهه وعينيه التي جفّت فيهما الدموع.

تُجَّار النسيج ومُحتكريه الذين يجلبونه من البَنْدَر لاحظوا بوادرَ اكتساءٍ بعد عُريّ، ليس هذا قماشنا، من أين جاءوا به بعد أن صادرنا كل المغازل؟ من صنعه وقد شرّدنا وهجّرنا معظم غازلات القرية؟ من جرُؤ أن يتحدانا ويحاربنا في أرزاقنا؟ نظروا حولهم فوجدوا كل حمير القرية تتوكّأ على ثلاثِ قوائم في أرْسَانِها، فَطِنوا لما حدث، حرقوا المغازل المُصطنعة، حبسوا الشُطار قسراً في بيوت أهاليهن العرايا، فكيف يفعلن مثل ذاك الفعل الشنيع بالحمير المسكينة؟ عموماً رُبَ ضارةٍ نافعة، فما لبث أن اكتظّت سيارات المجازر الأهلية على الطرقات بحمير ثلاثية القوائم، وبعد انقراض الحمير، افتقدت حشائش جانب الطريق من كان يلوكها!

رأيان على “الذين غزلوا برجل حمار

  1. شكراً جزيلاً لإدارة الموقع الموقرة .. و الشكر موصول لأخي و صديقي د. محمد جابر…

    إعجاب

اترك تعليقًا على د. الخطيب يسري جعفر إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.