هذا أنا.. فمن أنت؟

هذا أنا.. فمن أنت؟

اللوحة: الفنان السوري ديلاور عُمر

ماهر باكير دلاش

أقول عزيزتي لأن المعزة تخبئ في ثناياها كل ما هو جميل، وكل معنى أصيل، وكل محتوى غير دخيل قد نكون ولدنا في بقعة جغرافية لم نخترها، والتقينا في حيز منها ضئيل، ولكن يبقى الأصيل دوما أصيل. ما الذي بوسعي أن أقوله، سوى أن العجز قد بلغ مداه.. قد فاق عناه!

سيدتي: أوجاع عظيمة تتملكنا، ولحظات من البكاء الصامت تعترينا.. عتمة، ونركض للغيبِ ركضَ الغريبِ لنسأل أقدارَنا من نكون؟ نحاول جاهدين النجاة من أنفسنا من عقولنا الهالكة، وقلوبنا المضطربة، نحاول النجاة من كل هذا الخراب الذي يسكننا ولا سبيل إلى ذلك.. سيدتي، لم يبدأ حديثي.. من أرقى ما يقدمه المرء للآخر، هو التحية الصادقة التي تأتي دون موعد، أليس كذلك؟

أما بعد..

لم أجد ما أقدمه لك، غير هذا النص العابر الذي نتشارك فيه الإحساس نفسه، ويكفينا نحنُ البشر إحساسنا ومشاعرنا وما نستشعرهُ بين السطور، ومن منا لا يحزن؟ فالحزن كان وما زال صديق الإنسان منذُ الأزل، ولقد لمست البُكاء الخفي في أحرفي وبذلك لمست قلبي الذي سطّر هذهِ الأحرف، فقلبي أصبحت تتسرب منهُ الأحرف ممزوجةً بدموعه، نعم دموعه، فهو يبكي وبكاؤه يكون على هيئة أحرف وكلمات، يقولون بأن القلوب الحزينة تُحس ببعضها وتواسي بعضها، ولقد وصلكِ إحساسي فقلوبنا الباكية لا تستطيع النجاة بمفردها، فلابد وأن تبكي معاً، وبكاؤها يكون على هيئة نص عابر كهذا وكأنهُ دمعةً مُغلفة، يراها الجميع على أنها قطرة ندى، ولكن لا يراها على حقيقتها بأنها دمعة إلا قلباً باكياً، وها أنا أضع كلمات في راحةِ يمينكِ، وأحرف في راحة شمالكِ، طالبًا من الله أن يحرسكِ ويبارك لكِ ويملأ قلبكِ بأنواره، وأن يبقيكِ.

شعور المرء بالتشَتُّت لا يعني أنه سيبقى هكذا طويلاً، بطريقةٍ ما ستأخذ الأمور مسارَها الصحيح، فوضى الأفكار في الرأس ستترتَّب، القلق الذي يسكُنه ستحل الطمأنينة مكانَه، القرارات التي تتخبَّطين فيما بينها سيختارُ الله لك أصلَحها ما دمت قد استخرته ودعوته وصبرتْ، والغدُ الذي كان كابوساً غير واضحِ المعالم سيصبحُ واقعاً جميلاً فقط الكثير من الصبر والعميقُ من الدعاء والثقةُ الحق في ربِّ الأرض والسمَـاء.

نقيم حروبا في رؤوسنا، وفي كل أحاسيسنا.. الصداع بدأ يضرب كل ثنايانا.. شظاياه تتناثر في كل مكان.. الأفكار تتناثر كشظايا الزجاج.. منها يضرب وبعضها يجرح.. تتبعثر داخلنا.. لماذا نجعل كل هذا ظاهرا جليا في قسماتنا.. هالات سوداء تحت جفوننا.. اليس هذا متعب حقا! حتى لو تجاوزنا أعاصير مرعبة، هل تظنين أن الرياح ستخيفها وتمنعها من تلقاء نفسها؟ فلنغن اغنية فرح وليخرس اليأس ومعه العالم، لتنمُ ثمار الحب والعطاء، ولتتفتح الزهور، ولتتوقف كلمة من أربعة حروف “إحباط” عن التغلغل في العقل، وليهدأ القلب وينام.. نحمد الله أن الحروف ما تنقل بحَّة الصوت، ولا وجع القلب، ولا الحرقة التي تفضح الكلام، ولا الرعشة التي تفضح المشاعر.. والحمد لله أن الحروف تداري خوفنا وقلة حيلتنا.

من ألطف الأمور التي يمكن أن تحدث لأي شخص أن يجد من يدعمه نفسيًا، سواء بكلامه أو بأفعاله، أن يجد من يسانده دائمًا، من لا يمل منه ويستمع إليه دائمًا، أن يجد من يُهوِّن عليه صعوبة الأيام حتى ولو بأبسط الأشياء، أن يجد من يفهمه دون أن يتكلم.. الدعم النفسي في الأوقات الصعبة لا يُنسى، لا يُنسى أبدًا.

نشعر أحيانا بحالة الوجود العدمي، من اللاجدوى، ونرى الجسور المعلقة بلا ضِفاف، والوجوه المُبهمة بلا ملامح، نشعر بالصداع المُتكدّس، ودوّامة التفكير المشدودة، والأصابع المرتخية، والمناديل المتيبسة بعد البكاء وأشياء كثيرة مزدحمة في حيّز ضيّق، لنقل إنه صباح خير..‏ على أمل أن يبدو كذلك.. ونطمح إلى يوم كامل مُتكامل من جميع الجهات، دون حُفرة ناقصة في الوسط وكأنها ثُقبٌ أسود.

مازلت أنسكب في الظل حين يشتعل الليل والجليد على قارعة ضفائر الروح أحاول أن أرمم المنفى، هذا أنا، فمن أنت؟

رأيان على “هذا أنا.. فمن أنت؟

  1. أنا ما تراكم عليها جليد الأيام

    وتاهت في صحراء المنافي..

    أنا الدمعة المحبوسة في زجاجات القهر ودهالبز العمر..

    من يضفّر جدائل الروح..؟

    ويبرّد حسرات القلب؟

    في هذا العالم الموحش، الغريب..

    سوى حفنة كلمات طيّبة..

    تهوّن علينا صعوبة الأيام..

    وثقل الحياة.

    شكرًا لحضرتك على هذا النّصّ البديع..

    احترامي وتقديري.

    شهربان معدّي.

    Liked by 1 person

    1. مداد القلم حبره، ومداد العقل فكره، ومداد الحرف جماله، ومداد النفس سموها.

      ماهر باكير دلاش

      شاكر ومقدر حضورك أستاذتي الرائعة..كل الود والاحترام والتقدير

      Liked by 1 person

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.