الطلائع

الطلائع

اللوحة: الفنان العراقي سيروان باران

سليم الشيخلي

قَدِم حسين ذات ظهيرة مكتئباً، يعلو وجهه شيء من الخوف، لم يسأل عن الغداء كعادته، لم أشاهد تلك النظرات القانعة التياعرفها جيداً، استفز أمومتي فأخذته إلى صدري ورحنا نسير إلى داخل المطبخ على مهل .

– لست على عادتك يا حسين، ما الأمر؟

–  لا شيء.

–  إذن لنأكل الاّن. قلتها ونذير عاصفة يهز داخلي.

–  لا أشتهي الطعام الآن.

– لا بد أن هماً ثقيلاً يرهقك، افتح قلبك. أنا أمك يا حسين .

دخل سعد مهرولاً رمى حقيبة المدرسة كعادته وجاءت بعده هدى، انشغلت بإعداد الغذاء وقلبي مشغول به، ظل ساهماًوالزمن يتمدد ببطء هلامي أصفر يلسع أناملي فلم أستطع إدارة شؤون المطبخ بيسر فاستعنت بهدى.

– قل لي ما الأمر يا حسين؟ فلقد نفد صبري.

–  الطلائع.

–  فيلم جديد تحب أن تراه؟

– تنظيم يهيئ الطلاب لتعلم استعمال السلاح والانخراط في الحزب وسيبدأ التدريب من عصر السبت المقبل وعلى جميع الطلبة الاشتراك به.

–  ولكنك لم تبلغ سن التجنيد بعد.

– هذا ما أخبرني به معلم التوجيه السياسي.

– لكنهم قتلة أبيك. قلتها بانفعال سريع.

– المعلم هددني بالطرد إن لم أشترك.

–  سأذهب إليه غداً صباحاً.

ملل كثيف يندى من بين خصلات شعري ليلزج جسدي، يتسارع مع صور قديمة فترسم فوق روحي ووجهي آثاراً رمادية،قتلة الأب يهددون الابن بالتشرد داخل أوكارهم أو خارج المدرسة دون مراعاة للحقد المدفون في الجانب الآخر من تعبي. التفتُّإلى صورة أبيه وهتف بها من داخلي بركان “لماذا لم أرحل بدلك” فاستيقظت تلك الحرّة المملوءة بالأسى واللوعة لتملأ شرايينيبغبارها الأصفر. وأنت يا قرة عيني وأملي في الخلاص من هذا العمل المضني، يا أحلى الفتيان، ليس لنا على هذه الأرض إلا ظل أجسادنا فلنكافح من أجل أن يبقى ظلنا، كيف يمكنني مساعدتك لصنع سياج لا تكسره الرياح. تذكرت عمله مع النجار قدري بعد الظهر، انتابني إحساس الخاسر في لعبة مع الحياة، رفعت يدي إلى السماء أذكرها بوعود عتيقة مع الفقراء مكتوبة على سطور شفق الغروب.

كانت باحة المدرسة مليئة بأوحال مطر الأمس،صفت بعض الأحجار ممراً يوصل إلى غرف الإدارة، دخلت غرفة معلم التوجيه السياسي في حالة من غثيان والطين يلصق قدمي والجوارب بالنعال الذي انقطع منذ لحظة لا أحسد عليها. جمل مزدحمة عند الحلقوم تتساقط مسرعة كطلب استرحام لإنقاذ ولدي، ابتدأت من موت أبيه قرب وزارة الدفاع، غربتي داخل وطني، موت ابن عمه في قطار سمي بقطار الموت مع مجموعة من سجناء نقلوا من بغداد في عربات نقل النفط وسدت عليهم فتحة التهوية وماتوا خنقاًقبل أن يصلوا إلى نقرة السلمان(١)، الخضار، عطف الناس، أجره الأسبوعي من النجار قدري وأشياء أخرى كثيرة أحسستها موجات تتكسر عند حافات الحقيقة فترسمنا بلا رتوش. أطرق المعلم برأسه نحو الأرض التي كانت تميد قليلاً تحتي ومنضدته والصورة الكبيرة المعلقة فوق الجدار، بلع ريقه ثم انكفأ بكرسيه إلى الوراء، تفرس بي وقال:

– إنها الأوامر ولا بد من تنفيذها وتسري على الصغير والكبير. قد أنقل إلى أقصى مكان في الشمال وتتبعثر عائلتي إن لم أنفذها كما هي بزيادة ودون نقصان.

–  والحل؟ 

–  لا بد من أن ينتظم حسين في الطلائع، لم الخوف منها، إنها منظمة تنمي العقل والجسم وتربط الشباب بأمته وتجعله مثالاًللعربي الغيور على كرامة الأمة، ثم كيف نحرر فلسطين من دون شباب واع بقضايا شعبه وأمته المصيرية.

–  لكنه يتيم ويعمل بعد المدرسة لنرتق جزءاً من جوعنا.

أطرق يفكر، نظر إلى وجهي المزدحم بالأسئلة،  التبريرات والتوسلات. أخرج سيجارة من جيبه، أشعلها، انطفأت بعد لحظة،أشعلها ثانية، أخذ نفساً عميقاً وكأنه يهيئ نفسه لجولة جديدة، رسم على وجهه تعبيراً جديداً وزفر بصوت مسموع كأنه يلقي عبئاًعن كتفيه، جز بأسنانه، رفع القلم ثم نحاه جانباً، ركز بصره على صورة السيد الرئيس المعلقة أمامه تذكره بواجباته ثم قال بهدوء.

– اسمعي أم حسين، كلنا نقدر ونحترم دور ونضال زوجك رحمه الله، رغم أني أختلف معه ، وأكبر لك صمودك ونضالك من أجل لقمة العيش، ولكن ليعلم الجميع أن حزبنا العظيم لن يدير ظهره مرة أخرى للطعنات فلقد علمتنا ردة تشرين أن لا نثق إلا بأنفسنا، نطور قوتنا بكل شباب الوطن ونبقي عيوننا ساهرة لخدمة الأمة والحزب الذي يقدم للجماهير مكاسب لم يقدمها أي حكم قبله، وأن نتسلح باليقظة والحذر بكل الوسائل.

–  ولكنني بنت هذا الوطن ولي حق عليه.

–  إنه قرار من أعلى المستويات الحزبية ولن يستثنى منه أحد.

– حتى أولاد رئيس الجمهورية؟

قلتها بخوف مشوب بالسخرية. نظر إلي بدهشة أول الأمر ثم كشر عن أسنانه الصفراء وقال بازدراء.

– اطلعي بره.

خرجت ورحى الأيام تدور، تسحق أشياء عديدة، أزهار تذوي أمامي كأوراق الخريف ويداي لا تمتدان أبعد من ظلي وحسرة مستديرة كنت أطلقها تحبسني داخلها دون مقاومة. أرغمت على شراء ملابس الطلائع وساعدني قدري النجار رحمه الله بشرائها،وانخرط بها رغماً عنا. يجيء متعباً كشجرة انتهت تواً من رقصة طويلة مع عاصفة أخذت معها نضارة الأوراق ونداها، بدويركض وراء طريدته فسحبته إلى الصخور، توقف لاهثاً منتصف الطريق، تركها وعاد خاسراً زمنه.

–  ما الفائدة؟

– لا أدري، ولا مجال للهروب الذي قد يجر علينا مشاكل عديدة نحن في غنى عنها.

–  وماذا تفعلون هناك؟

– نتجمع في ساحة المدرسة، نهرول ثم نعمل تمارين سويدية تمتد لساعات، يدربنا أفراد من الجيش كيف نتعامل مع السلاح،محاضرات حزبية وتمجيد للرئيس وكأنه صنع كل شيء ابتداء من قلم الكتابة وكيف أوحى لحمورابي بكتابة مسلته إلى الهواء الذي نتنفسه.

– أتمنى أن لا تنسى أنهم قتلة أبيك وقادرون على قتلك أيضاً، فيا ولدي لا تجادل حتى لو ألقوا فوق هياكلنا قنبلة. لا أدري هل هم غضب من السماء أم امتحان لشعب بكامله. لن ينتهي الحال إلى ما يريدون فللمستقبل فراشاته ولابد من أمل نتمسك به، لن نخرج من الحياة دون رداء، أسأل الله أن يكونوا قدرنا المؤقت.

–  أود لو تركت المدرسة كي أتخلص من الطلائع.

–  ستلاحقك الخدمة العسكرية يا ولدي.

–  ستلاحقني حتى لو تخرجت.

–  ستكون أقوى بشهادة جامعية.

–  الله يكتب ما فيه الخير.


جعجعة جديدة في فنجان كبير

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.