عفيفة

عفيفة

اللوحة: الفنان المصري وليد عبيد

دعاء صابر

تحمم طفلها بداخل طبق بلاستيكي كبير، تفرك يده اليمنى ثم اليسرى بالصابون وهي تهدهده أثناء غنائها بكلمات ترددها بلحن ذو وتيرة واحدة

•        والكريم إيده دي…مبسوطة للي حواليه

•        والبخيل إيده دي…مغلولة ماسكه عليه

تفرك كتفيه ثم صدره

•        والصاحب تبقاله إيه…غير كتف يميل عليه

•        والقلب الي ربه فيه…فين يروح الخير يجيه 

تغسل الصابون عن جسده ثم تلفه بالمنشفة وتحمله

•        والشهيد غُسله فيه…دمه طاهر يبعث بيه

…………

يسيرون جميعا خلف التابوت الذي يحمله الرجال في المقدمة ويتبعهم النساء. الجميع يكبرون ويهللون ويتمسحون في التابوت كي يتبركوا به حتى بلغوا المقابر وهم مازالوا في صخبهم.

صرخت فيهم بحنق وقد طفح كيلها:

•        فرحانين على ايه داهية توكسكم كلكم! الراجل عياله اتيتموا ومراته اترملت!

قالت إحداهن: أمر الله، الراجل مات شهيد زي ما جوزك مات شهيد يا أم طاهر!

قالت بحرقة: جوزي! يا ريته ما مات شهيد، جوزي لو يعرف إن الناس هياكلوا لحمي أنا وابني من بعده كان سابهم يعملوا فيا الي يعملوه! يا ريته سابهم..

جاءها صوت أخت زوجها صارخة من خلفها:

•        بتقولي إيه! أخويا الشهيد الي مات لأجل عرضه ما يتمسش تيجي انتِ دلوقتي تقولي عليه كده! كان نفسك يسيبك ليهم! آه يا خاطية! 

تحلق الرجال حول المرأة وهي تصرخ، جاء أخوها فشق طريقه بين الجمع وتقدم نحو أم طاهر، صفعها فسقطت أرضا فوق التراب.. قال وهو يزبد ويرعد:  

•        انتِ! انتِ مرمطي بشرف أخويا الأرض يا مرة يا عرة! قسما بالله إن خطيتي بره بيتك ولا انكشفتي على حد لهكون مسيح دمك ورامي جتتك لكلاب الشوارع! ووالله لولا العيل الصغير ده أنا كنت دبحتك دلوقتي!

قبضت بكفها على التراب بقوة وهي تصرّ على أسنانها، رمته به فإذا بالتراب قد انسل من بين أصابعها فألفت قبضتها خاوية  

انفض الناس من حولها وتركوها في الأرض ذاهلة، تلفتت حولها فرأت ولدها يواري نفسه خلف أحد العواميد وقد أولاها ظهره

تحاملت على نفسها كي تنهض ثم سارت نحوه وأمسكت بيده فجذبها منها.. قالت بإنهاك وهي تمسح دموعها

•        يلا يا طاهر خلينا نروح

نظر إليها بسخط ثم جرى بعيدا، وقفت تنظر إليه وهو يبتعد ثم هوت على الأرض من جديد وراحت تبكي.

مضت دقائق ثم شعرت بيد صغيرة فوق كتفها، التفتت لتجده قد عاد إليها والدموع تملأ عينيه، نظر إليها بحزن ثم احتضنها بقوة.

مضوا في طريقهم إلى البيت فوجدت أختها تنتظرها لدى الباب، دخلت وأختها خلفها، جلست بصمت بينما جرى طاهر نحو غرفته

•        إيه الي انتِ عملتيه ده؟ حد يقول كده!  

نظرت إليها بصمت فجلست بجانبها وتنهدت

•        على كل حال الي عمله عبد الجبار ده معذور فيه، وكويس إنها جت على قد كده.

اتسعت عيناها غير مصدقة فقالت أختها

•        ماهو برضو شرف أخوه حارقه! 

انفجرت فجأة وراحت تصرخ بحرقة

•        أنا بقالي سنين بلف أغني في الموالد والعيل الصغير ده على حجري لأجل ما نلاقي ناكل، ماحدش في البلد كلها ادى للعيل ده لقمة ولا جابله هدمه ولا حتى سأل! أنا الي شايله الطين! أنا الي عبد الجبار شافني مرة وأنا بغني في المولد وقولت هيطين عيشتي، وقف اتفرج عليا وسط الناس وبعدها مشي مخروس ولا اتكلمش! كام مرة الحوجه تخنقني وأروحله وأقوله عايزه ورث الواد يقولي ماحنا مع بعضينا! حارقه قوي شرف أخوه الي مات! طب ولحم أخوه ماحرقوش ليه! 

وقفت هي الأخرى تصيح فيها

•        أيوه بس برضو الي انتِ قولتيه مايصحش! بقى بعد ما ولاد الحرام كانوا هيستفردوا بيكي وقتلوا جوزك وهو بيدافع عن شرفه تيجي دلوقتي تقولي يا ريته سابهم يستفردوا بيا ولا عملش الي عمله! دي كبيرة قوي، ده انتِ تحمدي ربنا إن عبد الجبار سابك فيكي الرمق! 

•        انتِ معايا ولا معاهم!!

•        أنا مع الحق، انتِ اختي آه بس الحق مافيهوش زعل!

انهارت فوق كرسيها ووضعت رأسها بين كفيها، ساد الصمت للحظات قبل أن تتحدث أختها من جديد

•        هتعملي إيه دلوقتي وعبد الجبار حكم ماتخرجيش؟ 

•        ….ماعرفش، أنا كل الي هاممني طاهر، هياكل ازاي وهيروح المدرسة ازاي! 

نظرت إلى غرفته وقالت بنبرة ذات مغزى

•        لا.. ماتشيليش همّ طاهر…

في الليل نادته للعشاء، جلس إلى الطبلية فوجد رغيفا واحدا فقال بتذمر

•        إيه ده! رغيف واحد! 

ابتسمت وقالت وهي تلمزه

•        مش نقول الحمدلله

قال بضيق

•        يا ستي الحمدلله أنا ماقولتش حاجه، بس ده مش هيكفينا!

ابتسمت وراحت تغني وهي تضمه

•        رغيف واحد يكفينا 

يغدينا 

يعشينا

ومن غدر الزمن

يأمّنّا

يطمنا

ينسينا

وكم من خلق تكسفنا

بتظلمنا

بتإذينا

وتيجي اللقمة تجبرنا

تسنّدنا 

تقوّينا

ابتسم برضا وتشاركا الرغيف معا، عندها علا صوت طرقات حادة على الباب، قامت بسرعة تسأل بجزع

•        مين؟

•        أنا عبد الجبار

نظرت نحو طاهر بقلق ثم فتحت جزءا صغيرا من الباب نظرت إليه من خلاله

•        عايز إيه يا عبد الجبار؟

•        جاي آخد ابن أخويا

•        دلوقتي بس افتكرت إن ليك ابن أخ! ابني ماحدش هياخده

•        ابن أخويا ماعادلوش قعاد معاكي، انتِ واحده ما تتآمنيش على عيل زي ده

•        قولتلك ابني ماحدش هياخده

•        بقولك إيه، منغير لف ولا دوران، ابنك مش هتعرفي تأكليه لإن البيت ده مش هتخرجي منه، أنا هاخده يشتغل عندي بلقمته، يعني هعمل فيكي وفيه جميلة

•        يا بجاحتك يا أخي! عايز تاخد الواد تشغله صبي عندك! بدل ما تخليه يكمل تعليمه ويطلع حاجه محترمة! 

•        أنا مش هرد عليكي، كده كده انتِ بالنسبالي مش موجوده، وقفلتك للباب دي مش هتحجزني

ركل الباب بقدمه ففتحه على وسعه وأسقطها أرضا، ركض طاهر نحو والدته فقالت وهي تصر على أسنانها

•        ابني مش هتاخده، لا أنا هسيبه ولا هو هيرضى يسيبني

•        ابنك هيتعاير طول عمره بسببك، والمدرسة الي عايزاه يروحها، الي فيها مش هيرحموه

•        انت الي مش هترحمه! طاهر مخه كبير ومايصدقش كلام زي ده ولا يأثر فيه، وأهو عندك أهو! اسأله إن كان يرضى يروح معاك!

نظرت إليه فإذا به قد طأطأ رأسه ونظر إلى الأرض، نادته فلم يرد

تمسكت بكتفيه ونظرت إليه برجاء وراحت تستعطفه والدموع تنهمر من عينيها

•        طاهر! قوله مش جي معاك، قوله عايز أقعد مع أمي…قوله أمي لو فارقتها هتموت! 

 لم يتكلم وظل يفرك قدميه في الأرض

قال بشماتة

•        حتى ابنك مش عايزك، وهيعوزك ازاي وهو عارف إن البلد كلها هتعايره بنجاستك! 

لم تسمع شيئا مما قاله، ظلت تحدق في وجه ابنها إلى أن جذبه عمه من يدها فشهقت وتمسكت به، حاولت جذبه فدفعها عبد الجبار بقدمه وداس فوق أصابعها.. خرج من البيت وصوت صراخها يتبعه

….

بالكاد أشرقت الشمس

ركض بكل ما لديه من قوة، ظل يتلفت حوله يتأمل البيوت وهي تمر بسرعة، لم يعلم إلى أين يذهب أو إلى من، كل ما يعلمه أنه وجد نفسه فجأة لدى بابها فجثى أرضا يستند إلى حائط البيت

يأتي صوتهم من الداخل يغنون:

يا قمر الليل

طال ليلي طال من الويل

لو بس إنك تميل

وتطل بالرمش الكحيل

يا باي عليك ده انت بخيل

حتى برد السلام

يا قمر الليل

طال ليلي طال من الويل

وحبيبي طبعه بخيل

بالودّ مش بالويل

•        خلاص كده انتو حافظين، كفايه كده الليلادي

جمع النسوة طبولهن والتحفن بالملاءات السوداء ثم خرجن

وقفت تمسك الباب أثناء خروجهم بينما وقف رجلان على الجانب الآخر من البيت ينظران لها وللنسوة باحتقار.. قال أحدهم بحنق

•        نجاسة وفساد، اتفو! 

نظرت إليه واحدة منهن بسخرية ثم أطلقت ضحكة خليعة فازداد غيظه، كادت تغلق الباب خلفهم لولا أن رأت فجأة شابا يجلس قرب الباب مستندا على حائط البيت، نظر لها بعينين دامعتين بريئتين كأنه قط صغير.. نظرت إليه مليا.. لا يمكن أن تخطئه! لقد توهمته قبلا عدة مرات، لكن هذه المرة لا مجال للشك.. تجمعت الدموع في عينيها وهي تنظر إليه، ظل يحدق فيها بصمت ثم وقف وتقدم منها.. مدت يدها في الهواء وراحت تفكر.. تدفع أو تصافح.. أم تعانق؟

قال بصوت مرتجف

•        أنا طاهر

كانت تعرف سلفا أنه هو، ومع ذلك شهقت؛ فشيء ما بداخلها كان يغالطها وينكر عليها أن يكون هو.. راحت تبكي فجثى على الأرض يبكي هو الآخر، جذبته من ذراعيه كأنه طفل صغير واحتضنته وراحت تقبل وجهه وتمسح دموعه.. بعد قليل كانا يجلسان في الداخل يتأملان بعضهما بصمت إلى أن تكلم وقال بحزن

•        ماكنتيش عارفاني؟ 

ابتسمت

•        عمري ما أتوه عنك

أخفض رأسه 

•        عرفتيني ازاي؟

•        تعرف.. من يوم ما مشيت مع عمك من عشر سنين ماجيتليش ولا مرة، بكيت ليالي كتير، مش علشان سيبتني ومشيت لا، علشان قولت لنفسي إني لو شوفتك مش هعرفك.. وآديني عرفتك! 

نظر إليها بصمت ثم عاد ينظر إلى الأرض

•        إيه الي فكرك بيا؟ 

•        أنا كنت بجيلك.. كنت باجي بالليل أقعد تحت الشباك ده أسمعك وانتِ بتغني وتحفظي العوالم

•        وماوريتنيش نفسك ولا مرة ليه؟!

•        كل مرة كنت بسمعك فيها كنت بسمع برضو الكلام الي بيقولوه الناس وهما رايحين وجايين

•        وكنت بتصدقهم؟ 

•        كنت بحس إن ليهم حق، وكل يوم عمي يفكرني بالي عملتيه كنت بحس برضو إن له حق

•        ولما انت شايف إن عمك والناس عندهم حق.. جيتلي ليه دلوقتي؟ 

•        شوفت.. شوفت بعيني الي خلاني هربت منهم وجيتلك على ملا وشي…  

قالت بحيرة:

•        شوفت إيه يا طاهر؟ 

بدأ يحكي: كنا ماشيين امبارح بالليل أنا ومظهر ابن عمي، عدينا على خرابة كنا ساعات بنقعد فيها، أول ما وصلنا سمعنا صوت غريب، قربنا لقينا اتنين بيعتدوا على واحدة، وقفنا بعيد ورا حيطة، كل واحد مسك طوبة واتفقنا نهجم عليهم، بنبص من ورا الحيطة قبل ما نتحرك لمحنا وش البنت.. كانت فاطمة بنت عمي!

مظهر وقف مبلّم، أقوله يلّا مايردش عليا، جيت أتحرك راح ماسكني من دراعي

•        احنا اتأخرنا

•        يعني إيه اتأخرنا! 

•        يعني الفاس وقعت في الراس خلاص

•        انت بتقول إيه!  

حاولت أفلت منه ماعرفتش، فضل ماسك فيا ومكمم بوقي لحد ما الاتنين مشيوا وسابوا فاطمة في الأرض، مظهر بص حواليه وبعدين راحلها وأنا فضلت واقف ورا الحيطة.. بصلها شويه وفي إيده الطوبة الي كان ماسكها، فجأة.. لقيته دَشّ راسها بالطوبة! فضلت مبحلق في منظر الدم شويه وطلعت أجري، روحت على بيت عمي وحكيتله الي حصل وأنا بعيط، راح باعت ابنه التاني مكان ما قولتله.. شويه وجم هما الاتنين شايلين فاطمة ولفينها في جلابية، قام عمي وراح على مظهر ومسك راسه، لسه هحوش.. لقيته بيبوسه! 

•        ربنا يحفظك يا ابني، سترت أختك وصونت شرفنا كلنا

قال بعدم تصديق

•        إيه الي بتقوله ده يا عمي! 

•        انت تخرس خالص! مظهر عمل الصالح الي انت ماتعرفش تعمله! 

•        فاطمة مظلومة وماكانش حقها تموت! 

•        فاطمة لو كانت وعيت بعد الي حصلها كانت قتلت نفسها بإيديها ولا إنهاش تجيب العار لأبوها ولاخواتها!.. التفت إلى ابنه الأكبر

•        روح خليهم ينادوا عليها في الجوامع وقولهم الخارجة بعد صلاة الفجر، وروح للدكتور، قوله فاطمة وقع على راسها طوبة واتوفت في الحال، لغايت ما الجنازة طلعت عمي ماشالش عينه عني وفضل يأكد عليا ماخرجش من البيت، أول ما خرجوا لقيت نفسي بنط برا البيت وبجري، فضلت أجري ومش عارف أنا رايح على فين، كان كل همي إني أروح لأبعد حتة بعيد عنهم.. وأنا بفتكر منظر فاطمة جت صورتك قدامي.. شوفتك مكانها، جه على بالي إن عمي قتلك زي ما قتل فاطمة.. ببص لقيت رجلي جابتني على هنا..

دق الباب فجأة ففزع طاهر، ربتت والدته على كتفه وقامت تسأل عن الطارق فجاءها الصوت الغليظ

•        أنا عبد الجبار 

نظرت لابنها بقلق وأشارت له أن يتوارى بالداخل فتردد قليلا قبل أن يقوم.

فتحت الباب ووقفت تنظر إلى الشيخ وقالت بمرارة

•        والله زمان يا عبد الجبار.. الي فات عليه عشر سنين، كإنه لسه امبارح

•        طاهر جالك؟ 

•        بتسأل ليه؟ 

•        يبقى جالك

قالها ثم دخل وجلس يستند إلى عصاه

•        شوفي، الي عرفتيه ماحدش تاني يعرفه، وابنك مايفتحش بوقه بيه لحد وإلا.. قاطعته 

•        وإلا إيه؟ هو أنا عاد باقيلي شيء أبكي عليه؟! 

جلست هي الأخرى فتنهد

•        ابنك لو اتكلم يبقى بيخوض في عرضي، ولو خاض في عرضي هيبقى آخر يوم في عمره

•        عايز إيه يا عبد الجبار؟ ها؟ ابني لا هو تحت إيدي ولا تحت أمري، طول عمره كان تحت إيدك انت وتحت أمرك، جايلي أنا ليه؟ 

•        أنا عارف إنها جاتلك على الطبطاب، وإن كلمة واحدة مش بس منك؛ ده من أي حد.. هتخليهم يصحوا الميت

•        هات من الآخر يا عبد الجبار

•        نبقى حبايب

قالت بسخرية

•        بعد العمر ده كله جاي تقولي نبقى حبايب؟! بعد ما بهدلتني أنا وابن أخوك وحرمتني منه وطلعتني قدام الناس ست وس..

•        مابلاش الكلام ده

•        الكلام ده خدته منك، اياكش تكون مفكر إنك علشان مسكت الحديدة في الجامع بقيت شيخ! 

•        العوالم الي بتجيبيهم علموكي طولة اللسان، ولا جايز لسانك كان طويل من زمان وأنا الي مش واخد بالي! قصره، أنا عايز مصلحتك

•        ومن امتى ومصلحتي تهمك؟ 

•        طول عمري، ده أنا حتى جيتلك زمان أول ما أخويا مات، وانتِ قولتي لا! 

•        كنت عايز تتجوزني وتاخدني خدامة لمراتك وعيالك

•        كان هيبقى اسمك على ذمة راجل، مش كان يبقى أحسن من الي انتِ فيه دلوقتي!

•        الي يسمعك يقول صعبان عليك حالي! إيش حال ماكنتش انت الي حكمت عليا!

•        أنا! أنا كان المفروض أقتلك يوم قولتي الي قولتيه!.. بس ماهانش عليا، سيبتك تعيشي لغايت ما يجيلك أجلك، لو مش عاجبك حالك افتكري إن انتِ الي عملتي في نفسك كده

•        ويوم ما خدت مني ابني، كنت أنا برضو الي عملت في نفسي كده! 

•        ابنك هو الي اختار، وأنا ماعملتش غير الصالح ليه

•        انت مابتعملش غير الصالح ليك انت! من يوم ما جيتلك أطلب حق ابني وحقي في ورث أبوه وانت شايل ومعبي، ماصدقت إن حصل حاجه تخليك تتلكك وتعزلني عنه وتحبسني في بيتي، الواد وعيل؛ هيشوف إن ليك فضل عليه وعمره ما هيحط عينه في عينك، وأنا وبقيت مذنبه ماليش حق أتكلم، وإن خرجت من البيت تقتلني وتخلص مني.. بذمتك يا أخي، لساك فاكر إن أخوك ليه شرف؟!

سكت قليلا ثم قال بهدوء

•        طلباتك

•        شيك بورث ابني 

•        حاضر

•        وترد اعتباري قدام كل أهل البلد

سكت مترددا فقالت بتحدٍ 

•        ها!

•        اعتبريه حصل

•        بكرة، تجمع الناس وتيجي عند بيتي تشهدهم

•        حاضر، حاجة تانية؟

قام يستعد للرحيل فنظرت إليه بشك

•        هتقولهم إيه؟

قال بابتسامة سمجة

•        ماتشيليش هم، انتِ هتتولدي من جديد

نادته قبل أن يفتح الباب

•        عبد الجبار

التفت إليها فصفعته بقوة.. نظر إليها غير مصدق واحمرت عيناه من الغضب

•        أنا قولت بس القلم ده مايبقاش قدام الناس، خد الباب في إيدك

رحل وصفع الباب خلفه، عندها خرج طاهر بسرعة، بادرته قبل أن يتحدث

•        هتاخد ورثك وتمشي من البلد، مالكش قعاد هنا، لو فضلت وسطهم بكرة تدِشّ راس بنتك ولا مراتك

•        مش همشي غير وانتِ معايا

•        هبقى أحصلك، بس تعمل الي هقولك عليه

في تلك الليلة اجتمع العوالم في بيتها وظلوا معها حتى الصباح عندما نادى عبد الجبار أهل البلدة جميعا ووقف قبالة منزلها، أشارت إلى طاهر لكي يذهب إلى عمه الذي بدوره ناوله الشيك، نظر طاهر إلى والدته الواقفة خلف عتبة الباب المفتوح فأومأت له برأسها كي يرحل، بمجرد ابتعاده نادى عبد الجبار

•        اشهدوا يا ناس، الست دي أرملة أخويا وأنا حلفت عليها زمان ماتخرج من دارها، دلوقتي أنا عفيت عنها وحلفاني سقط، اخرجي يا عفيفة وعليكي الأمان! 

خطت عتبة الباب بقدمها ثم جلست فوقها.. أشارت للنسوة حولها فبدأن العزف، وعلى صوت الطبول بدأت تغني ومعها النسوة:

ياما قالولي وقالوا عليا

وعابوا ياما وذموا فيا

أنا الفقير وبالله غني

عمري ماكنت عبد ردي

أنا عفيفة

ونفسي عزيزة

وروحي طاهرة

منكم بريئة

ماليش حبيب ألجأ إليه

ولا لي خليل أميل عليه

في الليل سواد أدارى فيه

من شره لما هونت عليه

خدوا ضنايا ونور عينيا

لما طالبت بحق ليا

شهيد وراح دمه حر

وفات ضناه يدوق المر

لا قريب يحن ولا عمره مَرّ

ولا حتى كافي غيره شرّ

كاس وداير

مهما تعاير

للظلم ساعة

فيها الكل زاير

في نهاره يخطب في العباد

وفي ليله يقصف عمر الولاد

يقتل ضناه ويقول قدر

ويسيب الحق يروح هدر

لما لقاها بيها اتغدر

كمل عليها بالتراب

ماتجوش عزايا

تمشوا ورايا

تعدوا الخطايا

وانتو ماليكم

منها كفايا

عندما انتهت كان الهمس قد تحول إلى حديث مسموع، تلفت عبد الجبار حوله فوجد الناس ينظرون إليه.. نظر إليها بغلّ ثم أخرج السلاح من تحت عباءته وصوبه نحوها.. علا صوت الرصاصة في الهواء.. اخترق طاهر الصفوف وركض نحوها بينما حملها العوالم إلى الداخل وهم يولولون.. ارتمى في حضنها يبكي فتمتمت بضعف

•        مامشيتش ليه!

•        ماقدرتش أمشي منغيرك!.. أنا بلغت عن عمي زي ما قولتيلي.. مش توفّي بوعدك انتِ كمان؟ قولتيلي هحصلك! 

قالت وهي تلفظ آخر أنفاسها

•        بروحي مش بجسدي يا ابني

جاءوا بملاءة.. نظر إلى جثة أمه وإلى عباءتها السوداء الممتقعة بدم لا يبين من سوادها، أمسك بيدها اليمنى وقبلها ثم وضعها تحت الغطاء الأبيض وكذلك فعل باليسرى بينما يردد بصوت متهدج وهو يبتسم من بين دموعه 

•        والكريم إيده دي.. مبسوطة للي حواليه

•        والبخيل إيده دي.. مغلولة ماسكه عليه

مال فوقها يقبل منكبيها ويغطيهما

•        والصاحب تبقاله إيه.. غير كتف يميل عليه

•        والقلب الي ربه فيه.. فين يروح الخير يجيه

•        والشهيد غُسله فيه.. دمه طاهر يبعث بيه

رأي واحد على “عفيفة

اترك تعليقًا على غير معروف إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.