اللوحة: الفنان البلجيكي جيرارد بورتيلي
للقهوة في تراثنا وثقافتنا مكانتها الخاصة، ولها طقوسها ودلالاتها في حياتنا، ولها حضورها الطاغي في أدبنا العربي القديم، وقد كنا نوهنا في مقال سابق أن القهوة قديما لم تكن تحمل معناها المتعارف عليه اليوم، فقد كانت مرادفا للخمر، وبدا ذلك واضحا في شعر الشعراء وما أوردوه عن القهوة ووصفها.
ولعل القهوة من أكثر الأطعمة والأشربة التي نالت شغف الشعراء والإمعان في وصفها والتغزل بها، فها هو الشاعر أبو تمام – حبيب بن أوس الطائي – يصف لونها الوردي كخد ساقيتها، ورائحتها التي تشع مسكا وعنبر فيقول فيها:
وَقَهوَةٍ كَوكَبُها يَزهَرُ
يَسطَعُ مِنها المِسكُ وَالعَنبَرُ
وَردِيَّةٌ يَحتَثُّها شادِنٌ
كَأَنَّها مِن خَدِّهِ تُعصَرُ
مازالَ قَلبي مُذ تَعَلَّقتُهُ
أَعمى مِنَ الهِجرانِ ما يُبصِرُ
مُهَفهَفٌ لَم يَبتَسِم ضاحِكاً
مُذ كانَ إِلّا كَسَدَ الجَوهَرُ
بِحُبِّهِ يَقبُرُني قابِري
عِندَ مَماتي وَبِهِ أُنشَرُ
***
بينما نجد الشاعر البحتري – أَبُو عِبَادَةِ اَلْوَلِيدْ بْنْ عُبَيْدْ اَلطَّائِيّ – يقول في القهوة:
إِذا كانَ يَومي لَيسَ يَوماً لِقَهوَةٍ
وَلا يَومَ فِتيانٍ فَما هُوَ مِن عُمري
وَإِن كانَ مَعموراً بِعودٍ وَقَهوَةٍ
فَذَلِكَ مَسروري لَعَمري مِنَ الدَهرِ
ويقول أيضا:
سَقاني القَهوَةَ السَلسَل
شَبيهُ الرَشإِ الأَكحَل
مَزَجتُ الراحَ مِن فيهِ
بِمِثلِ الراحِ أَو أَفضَل
عَذيري مِن تَثَنّيهِ
إِذا أَدبَرَ أَو أَقبَل
وَمِن وَردٍ بِخَدَّيهِ
إِذا جَمَّشتُهُ يَخجَل
أَبى أَن يُنجِزَ الوَعدَ
وَأَن يُعطي الَّذي يُسأَل
فَلَمّا سَرَتِ الراحُ
بِهِ سَمَّحَ وَاِستَرسَل
فَلَم أَنظُر بِهِ السُكرَ
وَخَيرُ الأَمرِ ما اِستُعجِل
وَقَطعُ التِكَّةِ الرَأيُ
إِذا التَكَّةُ لَم تُحلَل
فَأَدرَكتُ الَّذي طالَبتُ
أَو قُلتُ وَلَم أَفعَل
جَزى اللَهُ أَبا نوحٍ
جَزاءَ المُحسِنِ المُجمِل
وَتَمَّت عِندَهُ النَعماءُ
فَهوَ المُنعِمُ المُفضِل
تَوَلّاني بِمَعروفٍ
كَسَيلِ الديمَةِ المُسبِل
أَخٌ ما غَيَّرَ العَهدَ
الذي كانَ وَلا بَدَّل
عَلى شيمَتِهِ الأولى
وَفي مَذهَبِهِ الأَوَّل
ليس من الغريب أن تحوز القهوة هذه المكانة عند الشعراء، لكن المدهش والجميل هذا الثراء والبذخ في وصفها، وتشبيهها بأجمل ما في النساء، حتى لتظن أن الشاعر يتحدث عن امرأة تنادمه لا كأساً من القهوة.
