الجهد المثقوب

الجهد المثقوب

اللوحة: الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا

«لماذا خالص جهد أغلب بلاد العالم، (يَنمو ويثمر ويبني ويضيف ويعلو) مهما كان حجم الظالمِين والمَظلومين والظُلمات في بلادهم؟ ولماذا خالص جهدنا في بلاد العرب، هباءً منثورا، في كل وقت وكل مكان وكل حال وعقب كل قرار؟»

لا يوجد شر محض ولا خير محض، لا بد أن ينفلت من الشر براعم من الخير مهما صغرت، لماذا لا تنبت هذه البراعم عند العرب؟

ما هو الفيروس الذي يحبط كل أعمالنا؟، ولماذا سقطنا من تصنيف العالم الثالث، لنصبح وحدنا العالم المأسوف عليه، والمغضوب عليه، والمُحْتَقر؟، بل أوشك الإعلام على نشر فكرة أننا ورم، إنْ تم استئصاله سيُشفى كوكب الأرض؟

هل أبالغ؟، هل هي حالة نفسية متوهمة؟، أم واقع خطير نرفض الاعتراف به؟

في فيلم «عائلة زيزي»، تشتهر جملة «فؤاد المهندس»: «الماكينة طلعت قماش»؟، الماكينة العربية هي الوحيدة في العالم التي لم تنتج قماشا منذ قرون.

***

عام 1972م، زار الرئيس الأمريكي «نيكسون» الصين، قال له زعيم الصين «ماوتسي تونج»:

«نحن بلد فقير ولا نستطيع إعطاء أمريكا شيء ولكن نستطيع إعطاءكم عشرة ملايين أمرأة صينية»، وكلما تغير الحديث عاد «ماو» ثلاث مرات لنفس الموضوع، ليؤكد جِدية عرضه، لولا أنْ حذَّره رفاقُه من خطورة هذا العرض إعلاميا.

قصة فدادين خمسة «الناصرية» هي أحد نسخ الإشتراكية التي سبقنا إليها «ماوتسي» عام 1949م، صادر الأراضي الزراعية ووزعها على الفلاحين، سمح بإهانة الإقطاعيين وملاك الأراضي أمام الشعب والإعلام، وانطلقت جرائم قتل جماعي لمليون إقطاعي، ثم استرد «ماوتسي» الأراضي ثانية بعد سنوات قليلة من الفلاحين، لينشئ مزارع جماعية، عادت الأرض للدولة، ووقَّع الفلاحون تنازلا عن الأرض، «ويا فرحة ما تمت خدها الغراب وطار»، وسببت الثورة الزراعية التي ابتدعها «ماوتسي» مجاعة أودت بحياة «ثلاثين مليون» صيني.

خاض «ماوتسي» مقاومة ضد القوميين، هرب منهم بجيش قوامه مائة ألف، في ملحمة اسطورية لمدة سنوات، عبر مسافة ستة ألاف كيلومتر، ولم ينج من الجيش سوى عشرون ألفا، وهلك كل الزعماء من رفاق السلاح ولم يبق سواه كقائد.

في 1966، أشعل الثورة الثقافية الكبرى، أراد سحق المعارضة، فقام بإطلاق ملايين الطلبة من المدارس العليا والجامعات ليخدموا كحرس حُمر وسببوا الفوضى في البلاد، دافعيين بالصين إلى حافة حرب أهلية ضارية.

هذه لقطات من «ماوتسي» الديكتاتور الذي عاش كإله بين الصينيين، وضحاياه عشرات الملايين، ومع ذلك، رغم (الظلم والتأله والدم والتخبط واللعب بالشعوب)، أنتج قفزة كبرى للأمام، وها قد أشرقت شمس الصين على العالم.

لماذا دكتاتوريات الأمم فيها بَرَكة.. ودكتاتوريات العرب منزوعة البركة ومشؤومة؟

***

في الإتحاد السوفيتي قام «ستالين» بنفي وسجن عشرين مليون روسي كي يستغلهم كأيدي عاملة مجانية، مات منهم مليونان من الجوع والمرض والقهر، والتهمة المتكررة هي عدم الولاء للوطن، والوطن هو «ستالين»، وعلى مدار ربع قرن حكم بقبضة من حديد وتسببت قراراته المختلفة في قتل ما لا يقل عن عشرين مليون شخص، ليصنف بذلك ضمن قائمة أكثر الشخصيات دموية بالتاريخ البشري، ثم خرج الإتحاد السوفيتي على يد «ستالين» القوة الثانية في العالم.

وأعود لأتساءل، لماذا دكتاتوريات الأمم فيها بَرَكة.. ودكتاتوريات العرب منزوعة البركة ومشؤومة؟

***

في برنامج «شاهد على العصر» الذي يستضيف رائد النهضة الماليزي «مهاتير محمد»، سأله مقدم البرنامج عن سبب ثنائه في مذكراته على الإستعمار البريطاني، قال:

«قبل الاستعمار البريطاني كان الحكم الملكي الاستبدادي، يُسيطر على كل شيء ويحوز كل شيء، فلا يصل كثير خير إلى الشعب، الإنجليز منظمون، وأسلوب الحكم كان مفيد مقارنة بالاستبداد، فالقانون مطبق ولم تكن هناك اجراءات عشوائية خارج القانون ضد الأفراد، وكانت جباية الضرائب أكثر كفاءة وتؤول إلى خزينة الدولة وليس الملك، ويؤخذ منها للتعليم والعلاج الطبي والإنشاء، وضبطوا القضاء وأداروا الأمور بشكل أفضل من المَلك».

 أدهشني في كلامه سلامة صدره ورجحان عقله، فقد كان مجاهدا ضد الاستعمار ولكنه مدح ما فيه من خير، والخلاصة التي قالها أنَّ: «الاستبداد أسوأ ألف مرة من الاحتلال»، والمدهش أنَّه نفس الرأي الذي ذكره عالم الإجتماع «علي الوردي»، في كتاب «لمحات إجتماعية من تاريخ العراق»، وأضيف القول:

«الاستبداد العربي أسوأ استبداد في العالم».

***

العرب لم يكونوا أغنياء مثلما اليوم، الثروة التي توفرت في الوطن العربي بسبب البترول والثروات الأخرى لو قسمت على كل فرد في الوطن العربي لنال كل واحد ثروة طائلة، ولكنها حين وضعت في أيدي الحكام أصبحت شؤما على الشعوب، فلا الشعوب تنعمت بالثروة ولا نجت من ويلات الحروب والفتن التي سببتها تلك الثروة.

***

سأل مقدم البرنامج «مهاتير محمد» قائلا: «ما هو العنصر الاساسي في نهضة أي أمة؟، هل المال؟ الصناعة؟ الموارد الطبيعية؟ الانسان؟»، توقفت أمام هذا السؤال العاطفي، وتوقعت أن تكون الإجابة هي الإنسان، لأنَّ الاستثمار في الإنسان هو الأهم، ولكن الإجابة ستكون أقرب للعموم، فما كان منه إلا أن قال: «الاستقرار وسيادة القانون»، «الاستقرار» يعني أنَّ من يستثمر أمواله في البلاد آمن من التقلبات والمفاجآت، و«سيادة القانون» تعني أن القانون لن يظلم أحد ولن يسلب مال ولن يكون بطيء أو منحاز.

من هذه الإجابة أدركت ضرورة أن يمتلك الحاكم ثقافة رفيعة.

***

في مصر حين انطلقت ثورة 1919، صدر دستور 1923م، كان المفترض تطبيق نظام الملكية الدستورية كما في «إنجلترا»، ولكن لم ينتبه «سعد زغلول» وزملائه إلى الفخ الذي أبطل كل شيء، هذه الفقرة في الدستور تقول، «من حق الملك حل البرلمان وتشكيل حكومة حتى لو كانت من الأقلية»، وكان كلما فاز الوفد بالانتخابات يقوم الملك بحل البرلمان وتشكيل حكومة مؤيده له. والنتيجة أنْ فسدت الحياة النيابية بمصر.

***

حين تحررت الهند استلم الحكم حزب «المؤتمر الهندي»، وأكمل المسيرة، وهو الحزب الذي كافح الاحتلال، فكان للهند الفرصة في الاستفادة من تراكم خبرة الكفاح، فالذي قاد حركة الاستقلال هو الذي مارس البناء، وساعد هذا على صعود الهند كدولة كبرى، ولم يكن هذا بسبب طيبة قلب بريطانيا، ولكنها اكتفت بفصل باكستان عن الهند في نفس يوم الإستقلال، ورحلت تاركة فخ العداء بين الهند وباكستان.

أما مصر، فحين تحررت، كان شعار الحركة «بناء حياة ديمقراطية سليمة»، ولكن حدث العكس، ألغيت الأحزاب ومعهم حزب الوفد الذي كان يملك الخبرة الكبرى لقيادة مرحلة ما بعد الإستقلال، وتزامن مع القرار، انفصال «السودان» عن مصر، ففقدت مصر امتدادهها الطبيعي وشريانها، وبهذا حُرمت مصر من الجناحين الذين ستطير بهما إلى المستقبل.

***

عندما يعيش الإنسان في كدر متواصل، فلا يمر يوم إلا ويجد من يعكر عليه يومه، حجر يلقى عليه ثم يلتفت فلا يجد أحدا، قاذورات توضع أمام باب البيت، سباب وافتراء مكتوب بالطباشير على باب البيت، عربة تتجه إليه بأقصى سرعة فيظن انها ستصدمه، ثم تحيد وقد غاص قلبه في قدمه، مادة سائلة توضع في طريقه فينزلق على ظهره ويكسر عظمه، أحداث كثيرة مجهول فاعلها.

يجتهد ولا يقدر على حل اللغز، يظن أن المجرم فلان أو فلان، ينقل التهم والظنون من شخص لآخر، وتتعقد الحيرة، 

قد يكون معذورا مَن في مِثل موقفه.

لكن، لو كان هذا النكد يحصل له في بيته، ثم يدعي الحيرة، فلا بد أنه يُلَبِّس على نفسه، لأنه على يقين أن من يكيد به من أهل داره، وأنَّ عليه أن يتغلب على تحفظه وحيائه، ثم يواجه الفاعل مهما كانت قرابته له، ليس لدينا رفاهية قصيدة ثورة الشك «علَى أَنِّي أُغَالِطُ فِيكَ سَمْعِي – وَتُبْصِرُ فِيكَ غَيْر الشَّكِّ عَيْنِي- وَمَا أَنَا بِالمُصَدِّقِ فِي قَوْلاً- وَلَكِنِّي شَقِيـتُ بِحُسْنِ ظَنِّي»، إلى متى نصارع ظنوننا، ونكذِّب أعيننا، فالفاعل منا وفينا، ومن الجنون أن نلقى اللوم على من هو خارج البيت.

الذي يدعي الحيرة لا تصدقه، وحين يشير إلى خارج البيت لاتنظر بعيدا، المجرمون أمامك فلا تستحي، ولو كان قلبك جسورا، فانظر إلى المرآة وسوف تراهم.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.