رحلة

رحلة

اللوحة: الشاعر الفنان اللبناني جبران خليل جبران

هيام علي الجاويش

اللوحة: الشاعر الفنان اللبناني جبران خليل جبران

“هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا”

لم أكن شيئا، لأنني كنت من تراب، ثم من ماء، وفي لحظة عناق تدفق الماء من بين الصلب والترائب، فمكثت عمرا لا أعرف عده في ظلمات ثلاث.

كنت أنعم بالدفء والأمان والطعام، وكنت راضٍ، مستقر ومستكين برغم ضيق المكان، وعندما اكتملت واشتدت بنيتي تمددت في مساحتي، كما تمدد آدم في المساحة التي أعطاه إياها ربه في الجنة، عندما قال له تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ وقال: ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)  فطغّاه إبليس فزل آدم وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، فطرده من الجنة.. وأنا أيضا طردتني أمي، لفظتني خارج أحشائها في الساعة الرابعة فجرا، لقد كنت قليل الصبر، فلم انتظر حتى الصباح، ولا أمي أيضا استطاعت إبقائي ولو لساعة إضافية.

في اللحظات الاولى التي رأيت بها النور، أناس سألوا عن المولود، لم أعرفهم ولم يعرفوني، يد باردة لأحدهم التقطتني من رجلي، وجعلت رأسي إلى الأسفل وباليد الأخرى تلقيت عدة ضربات على أسفل قدمي.. لقد كانت بداية غير مبشرة، استنشقت بعدها الهواء للمرة الأولى وبدأت الصراخ وسمعت صوتي لأول مرة أيضا، لقد كان كجرس. ثم وضعني تحت صنبور الماء البارد، وشعرت بالبرد الذي لم أكن أعرفه من قبل.. أهكذا ستكون الحياة؟

في الساعة الأولى: استقبلوني، ألتفوا حولي، لفوني بالأبيض بعد أول حمام دافئ حملوني بالأحضان ووضعوني في مكان واسع، ونمت لأول مرة بعد أول وجبة غذاء.يا لها من حياة رغيدة! يكفيها الاتساع.

في الساعة الثانية: سمعت أصوات جميع أفراد أسرتي من أذني مباشرة، ورأيتهم بعيني.

في الساعة الثالثة: شعرت بالملل أصدرت أصواتا طربت بها أكثر من طربهم والغريب في الأمر أنني كنت أجذب الجميع بتلك الأصوات لملاطفتي ومداعبتي، وعندما ينشغلون عني أقوم بتشغيل الجرس، وأجبرهم على البقاء عندي على الأقل أحدهم وغالبا ما تكون أمي، وتحار في أمري.

في الساعة الرابعة: بدأ ظهور أول سن وكم كان ذلك مؤلم يا أمي، وفي الساعة الخامسة: خطوت أول خطوة وكم كنت فرحا بتلك الخطوة يا أبي.وبعدها بدأ التكرار.

في الساعة السادسة: سقطت أولى أسناني. وضعت أمي الحقيبة في ظهري وقالت: هيا إلى المدرسة.. إياك أن يتفوق عليك أحد. وبدأت رحلة المتاعب، وبت أتعلم الدوران في الساقية.في الساعة السابعة: أحببت ابنة الجيران يا له من شعور! فهو يضاهي شعوري لحظة قدومي للحياة، وكأنني لست أنا، وولدت من جديد.. علم أهلي وأهلها، فبكتن آذاني كما تبكت آذان الأنعام، أما هي فقد أصبحت أسيرة البيت وزوجت لأول طارق.

في الساعة الثامنة: نلت الثانوية، وعدت للتكرار وللدوران في الساقية كثور.في الساعة التاسعة: تخرجت من الجامعة وتعينت، وتزوجت.أما في الساعة العاشرة: رزقت بأول أبنائي، ولا أبالغ إن قلت أن الحياة اختصرت على تلك اللحظة، وكم كنت مزهوا بولي العهد يا أبي، وعاد التكرار.

في الساعة الحادية عشر: تزوجت أبنتي وبكيت عليها بحرقة بكائي حين وفاة أمي.في الساعة الثانية عشر: حضرت حفل تخرج ابني الأصغر، كنت فرحا نعم لكن هذا أيضا كان من تكرار التكرار، أما في الساعة الثالثة عشرة: حملت بين يدي حفيدي من ابنتي، ولن أصف لكم شعوري فقط سأقول: لقد أحسست بأنني أحملني بين ذراعي.في الساعة الرابعة عشرة: حضرت حفل تخرج حفيدي، ولم أشعر بالفرح لأن جدته غادرتنا، وكذلك جد أبيه.

في الساعة الخامسة عشرة: حضرت تزويج حفيدتي وشعرت بالشيخوخة تدب حثيثا في أوصالي.أما في الساعة السادسة عشرة: الثلث الأخير من العمر عدت من عند الطبيب ومعي كيس الأدوية، جلست وفتحت الكيس حصيلة ثروتي من جهد عمري أحصي دقائق الوقت لتناول كل هذا الدواء في حينه، وأعد الوقت المتبقي من العمر. وأفكر فيما عدا ثروتي تلك… معاركي وانتصاراتي وخذلاني، فوجدت أن أقسى وأشرس معاركي هي التي كنت أخوضها مع ذاتي، وأكبر انتصاراتي هي التي كنت أنتصر فيها على نفسي.

أما عن الخذلان فلذلك ترتيب آخر، فكل من خذلتي هو في حقيقة الأمر لم يخذلني إنما كان لنفسه الأولية، وتعلمت الدرس منه. أما الخذلان الحقيقي فلم يكن إلا عندما خذلتني صحتي.

نهضت، أتلمس عصاي أمسكتها بيميني، لا لأهش بها على غنمي وليس لي بها مأرب أخرى، أنما كي اتوكأ عليها، ولا أدري ان كانت الساعة الأخيرة طويلة أم قصيرة. لأن جميع ما مر بها تكرار التكرار. ولأن الدماغ يحذف المواقف المكررة والأحداث المتشابهة دون العودة لصاحبه، مثلما يفعل الحاسب والجوال عندما تكون الذاكرة ممتلئة، لذلك جميع ما مر محذوف تلقائيا، وكم كانت طويلة تلك الساعة وأن قصرت. 

في نهايتها.. أناس أحياء وليسوا أموات مثلي، لا يعرفوني ولا أعرفهم، سألوا عن المرحوم.. أي أنا، سقطت عني الألقاب، والأسماء، وبقيت الصفة، وأصبحت الحياة والموت واحد مثل المولود والمرحوم، أحدهما لأول الطريق، وثانيهما لنهاية الطريق. وأدركت بأنني وصلت إلى نهاية خط السباق. قلت: ربي لا تحشرني يوم القيامة أعمى.

دخلوا، مشيا على أقدامهم! وأنا مسجى.. وكم مشيت على قدمي، دون أن يثير ذلك انتباهي، ودون أن أشكر النعمة، فقد أرهقتهما من الركض والجري رغم وعورة طرقات الحياة. امتدت أيديهم الدافئة إلى جسدي البارد، عروني من ثيابي ووضعوا فوقي ماء بارد كبرودة جسدي. لفوني بالأبيض، حملوني على الأكتاف. وضعوني في مكان ضيق على مقاسي. لا دفء فيه، ولا أمان، ولا طعام، ودعوني، تركوني وحيدا. ذهبوا بعد أن أهالوا فوقي التراب، وقع خطوات الجميع مع نشيج البعض تلاشى رويدا، رويدا.. ثم صرت ترابا.. من التراب إلى التراب.

قال تعالى: “قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين” يا لها من رحلة قصيرة وإن طالت.

رأي واحد على “رحلة

  1. “يا لها من رحلة قصيرة وإن طالت”
    نص يختصر عمرنا كلّنا ووجعنا كلّنا..
    مقولة جدّتي: الحياة قصيرة مثل صفعة الباب..
    نعم عزيزتي الحياة قصيرة، واقصر مما نتوقع.
    بوركت وبورك قلمك الاخضر استاذة هيام.
    ودام فيض عطاؤك الاثير، الذي يداوي القلب ويرتّق الجروح
    ويهمس: كلّنا واحد، نركب القطار ذاته في هذه الرحلة القصيرة.

    إعجاب

اترك تعليقًا على shahrbanmoadi إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.