يوميات هناء في نيويورك – الخريف في دوغلستون

يوميات هناء في نيويورك – الخريف في دوغلستون

اللوحة: الفنانة الأميركية نيلا بوشبرج

هناء غمراوي

الخريف يخيم على المدينة هذا الصباح، ويمطر طرقاتها بأوراق الشجر المتساقطة التي كانت تتجمع ثم لا تلبث أن تتحول إلى بساطٍ أصفر بديع يكسو كل مكان كانت تلمحه عيني، قبل أن تذروها الرياح وتسافر في كل اتجاه. لطالما سمعت وقرأت، عن فصل الخريف وجماله الساحر في النصف الأعلى من الكرة الأرضية.! أما أن أشاهد ذلك بأم عيني فتلك مسألة أخرى.!

في رحلتي الصباحية في الحافلة الى مركز الرعاية، والتي كانت تستغرق ما يفوق النصف ساعة، (لأن السائق كان يقل بعض المسنين، من أمام منازلهم، وكان مضطراً لتقديم المساعدة اللازمة لبعضهم لصعود الحافلة مما كان يزيد في وقت الرحلة أضعافاً). تلك اللحظات كانت تمر عليّ في السابق ثقيلة مملة، وكنت اقول في نفسي “لماذا لا أختصر هذا الوقت الضائع، وأقود سيارتي بنفسي أو اطلب من ابنتي أن تقلني فأصل الى وجهتي خلال دقائق!.. الى أن أتاني الجواب عفواً..

الحقيقة انني تعلمت في هذه المدينة بعض الصبر وشيئاً من الهدوء. وقناعة جعلتني أشعر بأنني مهما ترويت في انجاز عمل ما، فإنني سأنجزه وربما أسرع مما كنت أتوقع..

كنت أراقب بعض الناس هنا كيف يمارسون تفاصيل حياتهم اليومية بهدوء كبير؛ مُقارِنةً سلوكياتهم وتصرفاتهم اليومية، بسلوكيات وتصرفات الأفراد في مجتمعاتنا..

أنظر إليهم وبخاصة إلى المسنين منهم وألاحظ كيف يقفون بانتظامٍ تامٍ في الدور أمام صناديق المحاسبة في الصيدليات، وفي المجمعات التجارية، في المسارح ودور السينما، وفي كافة التجمعات على اختلاف انواعها. ولم ألاحظ على وجوههم يوماً أيٍّ من علامات التبرم، أو التضجر! فلا أحد يستعجل آخر ليفوز بدوره ولا أحد يصرخ معترضاً او ساخطاً..

انطلاقاً من قناعتي تلك، الحديثة والمكتسبة؛ صرت أمضي وقتي داخل الحافلة، في طريقي الى المركز في هدوء تام، وبكامل الرضى. مرات كنت أراقب هاتفي واتفقد ما فاتني من مراسلات. وأغلب الأوقات كنت أحاول التعرّف الى المدينة التي انتقلنا اليها قبل أشهرٍ فقط، فأتأمل الشوارع وتفرعاتها والبيوت المتناثرة حولها.!

بيوت دوغلاستون معظمها لا ترتفع لأكثر من طابقين، أو ثلاثة؛ أغلبها مصنوعة من الخشب، وأسقفها ذات أشكال هرمية مسننة تساعد في انزلاق الثلوج عنها بسهولة خلال فصل الشتاء، كما انها تؤمن مساحة فراغ كافية، بينها وبين السطح الداخلي للبيت كي يحافظ على الحرارة الداخلية فيه صيفاً وشتاءً.. ونجد الكثير من أمثال أشكال هذه البيوت في معظم القرى الجبلية في لبنان؛ الفرق بينها؛ ان البيوت اللبنانية مبنية بالحجر ومسقوفة بالقرميد الأحمر. أما البيوت الأميركية مصنوعة أغلبها من الخشب كما أشرت.. 

لم يعد مكوثي الصباحي في الحافلة يزعجني، صرت أعتبره مساحة زمنية للتأمل تمدني بطاقة ايجابية لتمضية بقية اليوم.

هذا الصباح لاحت لي من شباك الحافلة تباشير الخريف على طول الطريق التي كنا نسلكها والتي كانت تظللها الأشجار الوارفة من الجانبين. وبعض ‏ الأشجار الضخمة، المحيطة بالبيوت المتاخمة لتلك الشوارع. جميعها بدت كأنها ترحب بالخريف على طريقتها؛ منها ما ارتدى الأصفر الذهبي، أو الأحمر القاني، وأخرى اتشحت بالوردي أو البرتقالي، فظهرت كباقاتٍ ضخمة جداً من الزهور.. كلها كانت زاهية الألوان وكلها مستعدة لتودع أوراقها الجافة والمحترقة باحتفال أشبه بمهرجان كبير للألوان..

لطالما راقبت تبدل ألوان أوراق الشجر ثم تساقطها، في فصول الخريف السابقة التي قضيتها في أستوريا؛ ولكن رحلتي اليومية من شقتنا الجديدة في دوغلاستون الى مركز الرعاية سناب (Snap) كانت كافية بإعطائي جرعة من التأمل والهدوء لمواصلة الحياة في هذه المدينة الجديدة، بعيداً عن بلدي، وبقية افراد عائلتي. وعن كل ما ألفته وعشته في حياتي السابقة هناك.

رأيان على “يوميات هناء في نيويورك – الخريف في دوغلستون

  1. رائعةٌ هي أنتِ، أيّتها السيدة العظيمة أينما كنتِ، وإلى أينما ارتحلتِ، ففي عينيك جمال، يغوص ليخرج كل جميل من حولك.

    إعجاب

اترك تعليقًا على الحسام محيي الدين إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.