اللوحة: الفنان العراقي سعد الطائي

من منا لا يطرأ على ذهنه عند ذكرنا فن الهجاء الشعري؛ فيشير بكل بنان إلى الحطيئة؟ هذا الشاعر الذي ترك بصمته الخالدة في ديوان الشعر العربي، فاشتهر كما اشتهر بعض شعراء عصره بشعر الهجاء، لكنه تفوق عليهم، فقد وصل به الأمر إلى هجاء نفسه وزوجه وأبيه وأمه، ويقال إنه لما لم يجد من يهجوه، وهو الذي لا يستطيع أن ينقطع عن الهجاء، لم يتورع عن هجاء أبيه وأمه وحتى هجاء نفسه، ويكاد يكون الشاعر الوحيد بين الشعراء الذي هجا نفسه، فيقال إنه نزل بئرا ليأتي بشيء من الماء، فرأى صورته المنعكسة على صفحة ماء البئر فاستقبح هيئته، فقال:

أَبَت شَفَتايَ اليَومَ إِلّا تَكَلُّماً

بِشَرٍّ فَما أَدري لِمَن أَنا قائِلُه

أَرى لِيَ وَجهاً شَوَّهَ اللَهُ خَلقَهُ

فَقُبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حامِلُه

وأتقن الحطيئة الهجاء المقذع حتى خافه الناس وتجنبوه، فلم يسلم من لسانه أحد حتى أمه، فقد عاب عليها عدم حفظها للسر، وأنها أحق امرأة بالعقوق، فقال في هجائها:

جَزاكِ اللَهُ شَرّاً مِن عَجوزٍ

وَلَقّاكِ العُقوقَ مِنَ البَنينا

تَنَحَّي فَاِجلِسي مِنّا بَعيداً

أَراحَ اللَهُ مِنكِ العالَمينا

أَغِربالاً إِذا اِستودِعتِ سِرّاً

وَكانوناً عَلى المُتَحَدِّثينا

أَلَم أوضِح لَكِ البَغضاءَ مِنّي

وَلَكِن لا إِخالُكِ تَعقِلينا

حَياتُكِ ما عَلِمتُ حَياةُ سوءٍ

وَمَوتُكِ قَد يَسُرُّ الصالِحينا

ولم يسلم أبوه أوس بن مالك أيضا من لسانه، فهجاه كونه أبا مجبولا على السوء، فهكذا كان عمه وخاله، فالسوء فيه موروث متأصل، وهو لا يصلح أن يكون بتلك المنازل، لأن به من الصفات ما يخزي، ومن اللؤم والضلال ما يشين، ووهاكم الأبيات التي تعد من أشهر أبيات الهجاء في أدبنا العربي، يقول فيها:

لَحاكَ اللَهُ ثُمَّ لَحاكَ حَقّاً

أَباً وَلَحاكَ مِن عَمٍّ وَخالِ

فَنِعمَ الشَيخُ أَنتَ عَلى المَخازِي

وَبِئسَ الشَيخُ أَنتَ لَدى المَعالي

جَمَعتَ اللُؤمَ لا حَيّاكَ رَبّي

وَأَبوابَ السَفاهَةِ وَالضَلالِ

وربما ما دفع الحطيئة لمثل هذا الهجاء لأبيه أو لأمه، كونه عانى من الظلم والتهميش بسبب نسبه، فأمه «الضراء» كانت أمة، تزوجها أبوه ورزق منها ثلاثة أولاد منهم الحطيئة، لكنه تركهم للعار والفقر، فأدرك وقتها أنه لن يتفوق إلا بما يجيد وهو الشعر، ولن يقتص منهم بقدر ما يقتص الهجاء.

والبعض يقول إن زوجه أيضا لم تسلم من شر لسانه، فهو يشبهها بالحشرة، ويرى وجهها وجه قرد، لأنها دائما عبوس في وجه الضيوف، فكيف تكون مثلها محبوبة؟ وقد نسب له البعض تلك الأبيات، لكن على الأرجح أنها ليست له، وهي لأعرابي مجهول الهوية، ولكننا نذكرها من قبيل التثبت ومتعة القراءة:

لها جسمُ برغوثٍ وساقُ بعوضةٍ

ووجهٌ كوجهِ القردِ بل هو أَقبحُ

فتبرقُ عيناها إذا ما رأيتها

وتعبسُ في وجهِ الجليسِ وتكلحُ

وتفتحُ – لا كانت- فما لو رأيتَهُ

توهّمته بابا من النارِ يفتحُ

فما ضحكت في النّاسِ إلّا ظننتها

أمامهمُ كلبا يهِرّ وينبحُ 

إذا عاين الشيطانُ صورةَ وجهها

تعوَّذ منها حين يمسي ويصبحُ

وقد أعجبتها نفسُها فتملّحت 

بأيّ جمالٍ ليت شعري تملّحُ

وتعدى ذلك لهجاء قومه وعشيرته، فقبح وجوههم، وذم رجالهم ونساءهم، وكاد أن يتبرأ منهم، قائلا:

لَعَمري لَقَد جَرَّبتُكُم فَوَجَدتُكُم

قِباحَ الوُجوهِ سَيِّئي العِذَراتِ

لَهُم نَفَرٌ مِثلُ التُيوسِ وَنِسوَةٌ

مَماجينُ مِثلُ الآتُنِ النَعِراتِ

وَجَدتُكُمُ لَم تَجبُروا عَظمَ هالِكٍ

وَلا تَنحَرونَ النيبَ في الحُجُراتِ

فَإِن يَصطَنِعني اللَهُ لا أَصطَنِعكُمُ

وَلا أوتِكُم مالي عَلى العَثَراتِ

واشتهر الحطيئة بهجائه المقذع ومدحه لمن لا يستحق المدح، فقضى حياته متشرداً متنقلا بين القبائل ينتسب لمن يرى منه المنفعة، فيمدح مَنْ يجزل له العطاء، ويهجو من لا يعطيه ما يشاء، حتى أصبح الهجاء ملكةً خاصة تميزه، وأصبح يستعملها أداة للكسب، خاصة وهو الفقير المهمش بسبب نسبه، ويقال إن الحطيئة لقبه وليس اسمه، وإنما أطلق عليه لشدة قصره، ويقال إنه كان دميم الخلقة بشع الملامح.

وفي قصة طريفة له تجمعه والخليفة عمر بن الخطاب، أنه يوما هجا يوما الزِّبْرِقان بن بدر أحد وجهاء بني تميم وفرسانها وسادتها، فقال:

دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها 

واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي

فشكاه الزبرقان إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه لا يكون هجاء أشد من هذا! فأمر عمر بإحضار حسان بن ثابت، وعرض عليه البيت، وسأله هل هذا هجاء؟ قال حسان: بل هو أكثر، لقد سلح عليه – أي سبه وشتمه، فأرسل عمر إلى لبيد وسأله عن ذلك، فأكد أن البيت الذي قاله الحطيئة هو أشد أنواع الهجاء؛ فعاقب عمر الحطيئة بوضعه في بئر، وقال: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين، ثم شفع له عمرو بن العاص ليخرجه، ونظم الحطيئة أبياتا يستعطف بها الخليفة ويرجو عفوه قال فيها:

ماذا تَقولُ لِأَفراخٍ بِذي مَرَخٍ

حُمرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ

أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ

فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ

أَنتَ الأَمينُ الَّذي مِن بَعدِ صاحِبِهِ

أَلقَت إِلَيكَ مَقاليدَ النُهى البَشَرُ

لَم يوثِروكَ بِها إِذ قَدَّموكَ لَها

لَكِن لِأَنفُسِهِم كانَت بِكَ الخِيَرُ

فما أن سمعها عمر حتى عفا عنه، لكنه لم يرد أن يستمر لسانه في تجريح أعراض الناس، فجمع أصحابه للمشورة قال: أشيروا علي في هذا الشاعر، إنه يمدح الناس ويذمهم بغير ما فيهم، فما أراني إلا قاطعاً لسانه.. علي بالطست.. فأحضرت، ثم قال: علي بالمخصف وهو مخرز الإسكافي، ثم قال: عليَ بالسكين، لا بل عليّ بالموسى فهو أوجى، أي أسرع. فقال الحضور وقد فزعوا مما سيفعله عمر: يا أمير المؤمنين اعفُ عنه، فعفا عنه شريطة أن يكف لسانه عن التعريض بالناس، ولم يملك الحطيئة إلا أن يردد أمام الخليفة ذلك الوعد بالكف عن الهجاء.. وقيل إن عمر اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، لكن يبدو أن الحطيئة قد ندم على ذلك فيما بعد، وقد جاء في قصيدة له:

وَمَنَعتَني شَتمَ البَخيلِ فَلَم يَخَف

شَتمي فَأَصبَحَ آمِناً لا يَفزَعُ

وَأَخَذتَ أَطرارَ الكَلامِ فَلَم تَدَع

شَتماً يَضُرُّ وَلا مَديحاً يَنفَعُ

ولما حضرت الحطيئة الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا: يا أبا مُليكة أوصنا، فقال: ويلٌ للشعر من راوية السوء، فقالوا أوصنا رحمك الله بما ينفعك، أوصِ للفقراء بشيء، فقال: أوصيهم بالإلحاح في المُساءلة فإنها تجارةٌ لا تبور. فقالوا: ما تقول في مالك، فرد: للأنثى من ولدي مثل حظ الذكر. قالوا له: ليس هكذا قضى الله عز وجل لهنّ، فقال لكني هكذا قضيت.

ثم قال: تحملوني على أتانٍ – وهي دابة له – وتتركوني راكبها حتى أموت، فإن الكريم لا يموت على فراشه، والأتان مركب لم يمت عليه كريم قط. فحملوه على الأتان جيئة وذهابًا حتى مات، وكان يقول قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة: لا أحد ألأُم من حُطية، هجا بنيه وهجا المرية، من لؤمه مات على فُرية، أي على الدابة.

---

الحطيئة واسمه جرول بن أوس بن مالك العبسي، شاعر مخضرم، وكنيته أبو مُليكة. أدرك الجاهلية والإسلام. كان هجاءً لاذعاً، ولم يكد يسلم من لسانه أحد.

• فكر ونقد
• مقالات