اللوحة: الفنان الروسي فاسيلي تروبينين
مارا أحمد

أمسك جيتاره وبدأ العزف، وغنى على نغماته تلك الأغنية التي لطالما غناها لسنوات في نفس المكان لناس مختلفة، الليلة صوته له طعم مختلف، وأغنيته ذات صدى مختلف، ابتسامته أضاءت وجهه، فأضفت على طربه شجنا وجاذبية خاصة.
إنها تجلس في مواجهة عينيه؛ تسترق النظر إليه من آن إلى آخر؛ في محاولة للهروب من مراقبة الحضور.
أسندت ذقنها بيدها اليمنى ونظرت إليه، وراحت في رقصة معه، وقدمها لامست كف الرؤية التي اتسعت لتمتد يمينا حتى أقصى الشرق ويسارا حتى الأميركتين، والكون كله يشاهد وينصت في خشوع؛ فهم في حضرة الحب والفن …
أفاقت على تصفيق الضيوف وإيماءة من عينيه ورأسه تجيب على رؤيتها له بأنه كان معها في نفس الحلم.
انتهت الليلة، حيّت الجميع، ثم ركبت سياراتها الفارهة وانصرفت.
– هل تعرف من هي، مراد؟
– سأعرف، امنحني فرصة لأتواصل مع مدير المطعم؛ لا شك أنه يعرف من هي!
– لماذا انصرفت سريعا؟ هل تعتقد أن صوتي لم يرق لها؟
– لا أعتقد؛ لقد كانت في حالة من النشوة مع صوتك.
– لكن لماذا الاهتمام بها؟ لم أعهدك هكذا!
– أبدا، فقط لاحظت أنها راقية وهادئة وذوّاقة للفن، ونحن نحاول استقطاب شخصيات من تلك النوعية؛ حتى تتسع حلقة العلاقات لأجل البيزنس.
غابت عددا من الأيام، ثم ظهرت تلك الليلة ومعها شخص ما؛ كان يرتدي تلك النظارات السوداء، رغم أنه الليل.
جلست واحتست قهوتها، واستمعت له، ثم نهضت منصرفة؛ إلا أنه استوقفها مناديا:
– مدام …
– نعم.
– أعتذر، لكن كنت أريد أن أتعرف إلى حضرتك؛ فأنت تعرفين من نحن، ولكن مازلنا لا نعرف من أنت!
– هل يزعجكم حضوري؟
– على العكس؛ غيابك يقلل من ثراء الليلة ويفقدها بريقها.
– أشكرك.
– ألن تجيبي؟
– تاليا.
– تاليا؟
– نعم.
– أهلا بك، اسمك جميل كما أنت، رغم أني لا أعرف معناه.
– ههههه، ولا أنا، ربما يكون معناه التالية في العدد.
(أرفقت جملتها بضحكة كانت ضحكة عابثة، مناقضة لبراءة وجهها.)
– أتحملين اسما لا تعرفين معناه؟!
– نعم، فقط أعجبني نطقه، والموسيقا الناعمة التي تصاحب تلفظه، فلم أهتم لأن أعرف معناه.
– فهو ليس اسمك الحقيقي؟
– بلى، اسمي؛ فأنا من اختاره؛ إذن فهو أنا.
– وفيلسوفة أيضا؟
– إنها الحياة، تمنحنا الحكمة، سيدي أستأذنك في الانصراف.
-لماذا تتعاملين معي كما سندريلا، التي علقت الأمير بها لتختفي وتتركه وألم الحنين؟! غير أن سندريلا كانت أكثر رحمة منك؛ فلقد تركت له فردة حذائها ليستدل عليها، أما أنت فلا تتركين سوى الفضول.
– جمال العلاقات في غموضها، وجمال النجمة أننا نرى نورها ولا نعلم حقيقتها، أفضل أن أظل بوهجي، تحياتي.
ثم تنصرف في عجلة وكأنها خافت أن يغوص في داخلها فيكتشف سرها الذي لطالما أخفته حتى عن نفسها.
في اللقاء الذي اعتاد أن ينتظم في حضوره للعزف والغناء في نفس الكافيه؛ قرر أن يعتذر عن الغناء إن حضرت السيدة الغامضة والتي تربعت على عرش قلبه؛ ليتنظر بخارج الكافيه ليتبعها لعله يلتقط عنها خبرا، فقد تكون زوجته في المستقبل.
اختفى خلف شجرة بمجرد رؤيتها، وانتظر …
جلست وأخذت تلتف يمينا ويسارا تبحث عنه؛ فهي تحضر لتستمتع بصوته وبرؤيته.
سألت الويتر عنه، ليجيب أنه شعر بوعكة وأنصرف. كسا وجهها الحزن ونهضت للانصراف،
ركبت سيارتها وتوجهت إلى بيتها وكان يتبعها؛ لتهبط أمام إحدى العمارات؛ تركب المصعد وهو مازال مراقبا بسيارته من بعيد.
يهبط من السيارة يتوجه إلى رجل الأمن الحارس للعمارة يسأله عنها،
يجيبه بكلمات ظهر مدلولها على وجهه الذي ظهر شاحبا وحزينا؛ هناك شيء ما صدمه أو نزل عليه كما الصاعقة.
تكرر ذهابها للكافيه لعلها تلتقي به أو تسمع صوته فهي لم تطلب منه أي التزام أو وعدا، بل كانت مكتفية بتلك اللحظات التي كانت تقضيها في الاستماع لصوته، ولكنه لم يأت.
سألت عنه، قال لها الويتر إنه لم يعد يأت، واعتذر عن الغناء هنا لظروف خاصة. سألت عن عنوانه، لم يدلها أحد عليه.
ركبت سيارتها وتوجهت إلى عملها، نزلت بأحد الأندية الليلية وهناك على يمين النادي بوستر كبير لها وهي ترتدي بدلة للرقص الشرقي، وضحكات لكل من يشاهدها، قال أحدهم: “رغم أن سعرها غالي إلا أنها أنثى كما يقول الكتاب.”