كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (5)

كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (5)

اللوحة: ساحل مدينة «رشيد» للفنان المصري خالد هنو

تحاول هذه الدراسة تقديم مقاربة حول تاريخ الأصوات من خلال قراءة تحليلية لأربعة جوابات، تعود إلى زمن الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر. تغطى هذه الجوابات أزمة تعرضت لها فتاة مصرية تدعى زبيدة ابنة محمد البواب، مع أهالي مدينتها رشيد؛ بسبب زواجها من أحد كبار جنرالات جيش الاحتلال. ولم يشفع لها اشتراطها وقوف الجنرال أمام ساحة القضاء الشرعي وإعلان إسلامه.

كانت زبيدة تنتمي لأعيان الطبقة الوسطى، وكان مينو بحكم منصبه والمهام العسكرية التي كان يُكلف بها، يضطر بين وقت وآخر لمغادرة رشيد، وكانت كتابة الجوابات هي وسيلة التواصل الأساسية بينهما، ومن هنا مثلت جوابات زبيدة – مينو مصدرا مهما يمكن أن يكشف الكثير مما نجهله عن قصتهما التي لطالما صيغت بأقلام المراقبين والمعاصرين لها، والذين كانوا في الغالب رافضين لها ولزواجها من مينو، ما جعلهم يرسمون لزبيدة ملامح مصطنعة ابتعدت في جزء كبير منها عن الواقع التاريخي: فهل تمكننا دراسة هذا المصدر من العثور على زبيدة من جديد، واستعادة بعض آثار صدى صوتها لتحكي بنفسها، ولتتكلم بصورة عفوية عن جانب من سرديتها، لعلها تكشف لنا جزءا من حقيقتها (الغائمة)، بما يمكن معه عمل مراجعة نقدية للصورة السائدة عنها؟ ذلك هو السؤال الإشكالي الذي نحاول معالجته في هذه الدراسة.

الصوت الأنثوي المحتج: زبيدة في ذروة الأزمة

لما كان الأمر يتعلق بكرامتها قبل كل شيء، فقد انبرت تُصعد كتابتها الصوتية، بين رفضها لتجاهله تحديد موعد حاسم لعودته، وعتباها إليه أن يتركها وحدها غارقة في دوامة الأزمة وفي مواجهة الناس، فحشدت كل احساسها في كلماتها وهى تراجعه فيما وعدها به. وبدت وهى تُملى جوابها تستحضر وجوده وكأنه أمامها تتحدث إليه، وتلومه على وعده الذي لم يوف به، وهو ما يدلل مرة أخرى على سمات الكلام الشفهي في كتابتها: ” انكم توجهتوا من طرفنا بان تغيبوا عشرة أيام والان بقى لكم نحوا خمست عشر يوم … ونحن بانتظار جوابكم بالدقيقة”.

أيام قليلة، لم تتجاوز الأسبوعين، لكنها بالنسبة إليها أيام ثقيلة بحجم احساسها بالأزمة، تنتظره عند نافذة بيتها أن يُفاجئها بمجيئه أو بوصول جواب منه يخبرها بموعد وصوله: “ونحن بانتظار جوابكم بالدقيقة”. ولغة الأرقام إذا ما حملت دلالة معنوية، ينبعث منها الحزن والحيرة والارتباك. إن كل يوم يمضي بحساب الأرقام، كان خصماً من راحة بالها وهدأة شواغلها القلقة إزاء ثرثرة أهل المدينة وغيابه المستمر. وهى لا يسعها سوى الانشغال بهذه المسألة التي داهمتها وقضت مضجعها، وجعلتها لا تفكر سوى في عودته: ” ونحن كل قلبنا وفكرنا عندكم”.

ومن جواب إلى آخر، وهى وسيلتها الوحيدة في التواصل معه، تعمدت أن تعد أيام غيابه وتذكره بها، ففي جوابها بتاريخ 11 نوفمبر تقول: ” وكنتم اوعدتونا انكم لم تغيبوا عنا الا سبعة أيام والحال ان بقالكم عشرة أيام ربنا يقضي جاتكم وتحضروا الى عندنا”. وبعدها بيومين (بتاريخ 13 نوفمبر) كتبت في جوابها الثاني تقول: ” فانكم طولتوا غيابكم عنا ومنتظرين حضوركم لانكم قلتوا لنا انكم ما تبعدوا عنا الا ثمانية أيام ربنا ان شا الله لم يطول عليكم غياب وتحضروا عن قريب”. وفى 15 نوفمبر، أي بعد يومين آخرين، بلغت مدة الغياب قرابة الأسبوعين، ما جعلها تزداد توترا لتصارحه بلغة حزينة وغاضبة: ” لم باين لكم مجي “.

ومن الواضح أن مينو كان يرد على رسائلها، لكن جواباته إليها لم يحتفظ بنسخة منها أو أنها للأسف لم تصل إلى الأرشيف، وهو ما يفهم بوضوح من ردها على إحدى جواباته نعرفكم عرفكم الله كل خير ان وصلنا عزيز كتابكم الكريم.. وما ذكرتوه صار في علمنا وحمدنا الله الذي انتم بخير”. ورغم إحساسها بوطأة الأزمة التي تواجهها في غيابه، إلا أنها أعربت عن تفهمها لطبيعة عمله، وأخذت تدعو له بعودته سالما:” وان شا الله تعالي ربنا يسهل عليكم الأمور الصعاب وتحضروا الى طرفنا عن قريب”.

بيد أن مينو فاجأها، وهى في ذروة إحساسها بالأزمة، بأن أرسل إليها أحد معاونيه، ” الكخيا ” من ضباط الإنكشارية؛ لأجل حمل متاعه واحتياجاته الخاصة، دون أن يرتب معها الأمر، كما لم يُطلعها على ترتيب تحركاته، والأهم من كل لك موقعها هى في خطط تنقلاته تلك.

 والحقيقة أن مينو لم يفكر قط في اصطحابها معه، وربما كان مرد ذلك حالة السخط التي تزايدت ضده في الجيش. وكان وصول “خدم الكخيا” إلى بيتها بهذه الطريقة العلنية، على مشهد من المارة في الشوارع الضيقة والمتداخلة في رشيد، وما أثاره حضورهم من ضجيج لافت للأنظار، قد أثار استياؤها أكثر، فمثل هذا التصرف يُعرَّضها للمزيد من الحرج أمام الأهالي وثرثرتهم الفجة التي ازدادت اشتعالا مع صوت حركة الكخيا وجنوده. وحتى وإن لم يكن مينو ليقصد إهانتها بإهمال احاطتها بالأمر، فالنتيجة المتوقعة أن تصرفه على هذا النحو، أيقظ ضدها مجتمع النميمة، وجعلها هدفاً من جديد لمزيد من الشائعات، فمجيء الضابط في كوكبة من جنوده واتباعه، جعل مظان الناس شبه مؤكدة وهو ما رفضته بالكلية. 

وهكذا كان من المتوقع أن يعلو صوتها المحتج، دون أن تعبأ بوجود الكاتب أو الترجمان ولا أي يد ستلامس جوابها أو تُطالع حروف كلماتها. كانت تريد أن تختزل كل المسافات في لحظة واحدة، لتلقي بكلماتها المشحونة بالغضب على مسامعه، ما عكس جرسا مختلفاً لنبرة صوتها. وإذا كانت نظرة الجنرال الفرنسي للمرأة بصفة عامة ” كتابع صامت “، فإن زبيدة ليست ذلك النوع من النساء. وأنها وإن كانت في قلب الأزمة، إلا أنها لن تدع الأمر يمر مرور الكرام؛ فقررت أن تكتب إليه كامرأة من حقها أن تراجع زوجها وأن تعاتبه على تصرف وجدته غير لائق بمكانتها، فكتبت إليه تقول:” ونهار مبارح .. ارسلتوا الى الكخيا مكتوب بان يجيب الحوايج ويحضر الى طرفكم وما عرفنا سبب ذلك فاخذنا العجب الذي لم ارسلتوا تعرفونا وبقى كل بالنا وفكرنا [عندكم] “. مثل هذا النص يظهر أحد سمات شخصيتها الاعتبارية، لكنه أيضاً يكشف عن طريقة تعاملها داخل عائلتها الصغيرة: فالنص من ناحية يظهر طريقتها في التعبير الصوتي المنضبط حيال انفعالها وتوترها، لكنه من ناحية أخرى يعطي مساحة لتأمل الطريقة التي كانت تتحدث بها مع زوجها بشكل عام.

وغير خاف دلالة الاحتجاج الصوتي (الأنثوي)، ومطالبتها إياه بتقديم تفسير لتصرفه الذي أثار دهشتها أنه تغافل عن مشاورتها في هذا الأمر: ” وما عرفنا سبب ذلك.. ولم ارسلتوا تعرفونا”. ومن دون شك، أن مثل تلك التفاصيل النوعية التي لا يمكن رصدها في الوثائق والمصادر التاريخية التقليدية، تمكننا من التسلل إلى مساحة خاصة جدا في العلاقة العائلية، وتحديدا حول فكرة احترام ” أصول البيت الشرقي ” التي انتقلت إلى ساحة المناقشة المفتوحة بين زوجين ينتميان لثقافتين وعالمين مختلفين.

وتسمح الجوابات بالتعرف على المزيد من التفاصيل الصغيرة حول موقفها، والذي طرحته على صفحة الكتابة ” كحدث كلامي” مباشر، بأن ليس أمامه سوى أن يخبرها ” بالحقيقة”، وهي تخيره بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يأتي إلى بيتها برشيد وإما أن يأذن لها بالانضمام إليه بالإسكندرية: ” المرجو من جنابكم بان ترسلوا تعرفونا الحقيقة وانكان مرادكم تقيموا في الإسكندرية ترسلوا تاخدونا”.

النميمة والحزن مقترنان في حكيها، وقد جعلاها ترسم صورة دقيقة الملامح لنفسها: امرأة غارقة في ظلام البيت وسكونه، لم تعد تهنأ بالعيش، في ظل حرب النميمة، وضعف قدرتها على مواجهة الناس: ” لان لم عمال ندوق الزاد من كلام الناس ولم يهنى لنا عيش في بعدكم عنا … لأننا حاصلين في غم زايد من قبل ذلك”.

ومرة أخرى تُظهر هذه التفاصيل النوعية مدى ما يمكن أن تحيلنا الجوابات إليه من صيغ الكلام والتحدث داخل العائلة، وعائلة زبيدة مينو تعد نموذجاً أكثر خصوصية، يجمع بين عادات رجل ينتمي إلى الثقافة الغربية وبين امرأة لها عاداتها وتقاليدها وأصولها الشرقية التي تظهرها في نسيج كلماتها. ومن دون شك عززت كلمات زبيدة من وجودها وبصورة أدق من الرواية الرسمية التي ساقتها إلينا أقلام الضباط والجنود والمعاصرين لها.

والواقع أن طريقتها في الإملاء لا تمكننا فحسب من تتبع آثار قوة صوتها الاحتجاجي في مراجعة الزوج حول التزامه بأصول البيت، لكنها أيضا تكشف عن الطريقة التي كانت تفكر بها في معالجة أزمتها: إذ بدا لها أن تعديل تصرف الجنرال تجاه بيته، سيؤدى بالضرورة إلى تصحيح الصورة الذهنية لأهل مدينتها الذين يرمقون بعيونهم الداخل والخارج إلى بيتها (باعتباره بيت الجنرال الحاكم). وإذا كان الجنرال غير مدرك حجم الأزمة التي تواجهها، ووقعها المؤلم الذي مسَّ بدرجة عميقة كرامتها، فإن صوتها الاحتجاجي يخبره جيدا بأن ارتباطها به سيكون على المحك لا محالة، وهو ما سوف يلتفت إليه مينو في اللحظات الأخيرة.

وقع صوت زبيدة وكلماتها على مينو 

كان الترجمان قد لاحظ أثناء ترجمته لجوابها أنها غيرت توقيعها فبدلا من كتابة اسمها مقترناً به، وقعت على جوابها بصيغة مغايرة، أغفلت فيه كلمتي ” زوجتك / حرمتك”، وقدمت انتسابها إلى بيت النبوة: “من عند الست الشريفة زبيدة”. والمرء حين لا يجد القدر الكافي من التقدير لشخصه ومكانته، مع تعرضه لضغوط تحاصره، يجد نفسه بصورة عفوية، يتلمس جذوره. من هنا اختارت زبيدة أن تستعيد في توقيعها ذاكرة نسبها العريق التي ارتأت أنه يكفيها في التعريف بهويتها مجردة من الانتساب إلى مينو. وعبر هذه الإيماءة الصغيرة دللت على قوة صوتها في التعبير عن نفسها وشخصيتها الاعتبارية، والأهم تذكيره بهذا النسب الشريف الذي سعى هو يوماً، ومنذ مجيئه إلى رشيد، لنواله وكان أحد أهم أسباب ارتباطه بها.

 وكان من الملفت لمينو، أن ترجمانه قد تعذر عليه تدقيق ترجمته لكلمة ” الشريفة”؛ إذ لم يجد ترجمة تكافئ أو تقارب معنى ” الشريفة” سوى ” السيدة النبيلة “، “la noble Dame” برغم ما بينهما من تباين. ومعروف أن مينو، بالرغم من جذوره الارستقراطية النبيلة، إلا أنه كان فخوراً دائماً في توقيعاته بصفته ” جنرال جمهوري “. ولذا استوقفته دلالة هذا التغير في توقيعها، وأدرك أن بيت عائلته المسلمة في حالة استياء غير عادي. 

حاول في البداية تهدئة خاطرها، وإظهار اهتمامه بها، وأنه قام بتوصية الدلالين على شراء الأقمشة الفاخرة التي وعدها بها والتي دفع فيها مبلغا كبيرا. وبالفعل نجد بين أوراق مينو، وثيقة بسيطة لكنها غنية بالدلالات تؤكد ما جاء في جوابه إليها بشأن تدبير احتياجاتها العادية من إعداد فساتين وملابس خاصة ترتديها بالبيت. هذه الوثيقة عبارة عن قائمة بحساب الخياط وبائع الأقمشة تسجل أنواع الأقمشة المختارة بعناية، والتي تحيلنا إلى التعرف على ذوق زبيدة في اختيارها لنوعية الأقمشة التي تعد منها ملابسها الخاصة (فكان منها المشجر والمنقوش والإفرنجي والشاهي الهندي) فضلا عن تحديد ألوانها المفضلة، إلى جانب نوعية أخرى رفيعة أو خفيفة من ” الأتواب البيتية” التي تلائم ملابسها في المنزل. ويبدو أنه اتفق لها مع خياط إفرنجي خصوصي، ليعد لها ثوبين على الطراز الفرنسي المزركش من نوعية ” القماش الإطلس الإفرنجي المنقوش”[1]. علاوة على عدد من الصنادل التى اعتادت استخدامها ذات اللون الأخضر (وهو اللون الرمزي للأشراف في ملبسهم العام). 

أبدى إذن مينو اهتمامه بتلبية رغباتها في توفير احتياجاتها الخاصة، التي طلبتها منه قبل سفره إلى الإسكندرية؛ وسارع بإخبارها لأجل أن يؤكد لها أنه ورغم مشاغله المتعددة لم ينس لوازمها الشخصية، لعل ذلك يُخفض حالة التوتر والصوت الاحتجاجي الذي ملأ كل كلمة في جواباتها الأربعة إليه. وقد شكرته في جوابها على تذكره احتياجاتها بجملة رخيمة الصوت، تظهر الطريقة الشائعة في التعبير عن الشكر والامتنان، باستدعائها مفهوم ” العشم” الذي يلامس معاني متعددة، تدور حول فكرة جبر الخاطر وما يصاحبها من تلبية رجاء أو طلب خاص، ولا توجه إلا لعزيز يقدر قيمة الرجاء، فكتبت إليه تقول: ” ربنا ان شا الله لم يقطع لنا عشم منكم ويطيل لنا بقاكم”.

لكن ذلك لم يكن مبتغى زبيدة في حل مشكلتها مع الفضاء العام؛ ولا يمكنها الهروب من واقعها،؛ فالناس في كل مكان بالمدينة يتحدثون عن هجرانه لها ولبيتها، وأنه لن يعود إليها. وازداد الأمر تعقيداً حين علمت من مصادرها الخاصة، أن مينو لن يبقى بالإسكندرية، وإنما سوف يتوجه إلى القاهرة. ورغم تفهمها لطبيعة عمله، ولما يمكن أن يتلقاه من أوامر عسكرية عليا بحكم منصبه كأحد كبار الجنرالات، قررت استدعاء كاتبها الميقاتي ليكتب لها جوابا على وجه السرعة؛ إذ إن انتقاله المباشر من الإسكندرية إلى القاهرة، وهو ما كانت ترفضه بصورة قاطعة، سيحول ” النميمة”، التي نسجتها متخيلات نسوة المدينة ومكائدهن، إلى واقع، يزيد الشائعات من حولها، ويعطى المشروعية لانتشارها بصورة واسعة؛ لذلك قررت أن تحسم معه المسألة، فأملت على كاتبها تلك الكلمات التي حملت صوتاً أقرب إلى الاحتجاج المنضبط: “نعرفكم ان بلغنا خبر انكم عن قريب متوجهين الى محروسة مصر فان كان الامر ولابد تحضروا الى عندنا وتبقوا تتوجهوا من عندنا لأننا لما سمعنا ذلك حصل لنا غاية الغم الزايد …” وفى نهاية الجواب كررت عليه مطلبها، أو بالأحرى نداءها الأخير بالعودة إلى رشيد.

ولعل الدلالة الأكثر أهمية بالنسبة لنا كمؤرخين، أنها تفيض بمدى تقدير المرأة الشرقية لقيمة ما تعنيه بـ ” البيت ” القائم على أصول الترابط العائلي ونعمتي الرفقة والمؤانسة. إن فكرة ” البيت” و”جميع أهل البيت” دائما حاضرة في كل الجوابات، ووحدة العائلة وتلاحمها، وموقع “الست الكبيرة” والدتها التي حلت محل غياب الأب، لم تفتأ تذكر مينو بها في كل جواباتها، مع ما يحمله ذلك من قيمة رمزية لفكرة “البيت الكبير”. وحتى في جوابات أخيها السيد على الرشيدي، كان يرمز لعائلة مينو (زبيدة وابنها سليمان) بـ ” البيت”، فحين أخبره مينو بأنه بصدد البحث عن شراء منزل لزبيدة وابنه بالقاهرة، كتب إليه يقول:” بوقته ترسلوا تعرفونا لاجل ناخد لكم البيت.. ومتى اقتضا رايكم السعيد في حضورهم عرفونا حالا نحضر بهم لطرفكم”.

 لقد غاصت زبيدة، بطريقة إملائها الصوتي، في عمق تقديرها لقيمة البيت، وهو أحد مؤشرات الكتابة الحميمية المتوقعة في رسائل عائلية. هذه النتيجة التي تبرزها جوابات زبيدة حول فكرة ” البيت الشرقي ” بوصفه مؤسسة عائلية، تتناقض تماما مع المتخيل الأدبي عند على الجارم في روايته “غادة رشيد” التي طرح فيها تخيلا بعيدا عن واقعية صوت زبيدة بالجوابات، فجعل يتحدث على لسانها، وهى تصف بيتها تارة ” بالجزيرة الملعونة” ، وتارة أخرى ” بالسجن ” الذي تريد الفكاك منه، وأن ما بينها وبين مينو ” كالشرق والغرب وبينهما أميال وأميال وتباين كامل في كل شيء” …إلخ[2] هذه المتوهمات التي لا نجد ما يؤكدها، تنسفها لغة الجوابات ومحتواها. إن صوت زبيدة العفوي الذي انطلق من بين محفوظات الأرشيف بقلعة فانسين، وكلماتها الواضحة حول وعيها بفكرة ” البيت المترابط ” المستند إلى أصول وقيم خاصة، ومحاجتها علي صلابته ودعمه وصموده أمام سموم الإشاعات، وتمسكها بخيارها حتى النهاية، إنما تنسف أساس الصورة المتخيلة التي روج لها على الجارم في روايته، وعدم صحة زعمه بتشكك زبيدة في شرعية زواجها، وتورطها في زيجة سعى إليها من أسماهم الجارم بـ “أصحاب المنافع”[3].

(يتبع)


كيف نؤرخ للصوت؟.. قراءة في جوابات «زبيدة» زمن الحملة الفرنسية (4)

[1] وصف الجبرتي نوعية ملابس زوجات الجنرالات اللاتي اصطحبن أزواجهن في الحملة، بأنها كانت مختلفة، يرتدين:” الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة” أي الملونة، انظر الجبرتي، عجائب الآثار، ج 3، ص 262 -263. 

[2]  على الجارم، غادة رشيد، ص 93.

[3] نفسه.

نموذج توقيع بصفتها من سلالة الأشراف بتاريخ 16 نوفمبر 1799

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.