اللوحة: الفنان السوري محمد غنوم
ماهر باكير دلاش

العروبة ليست مجرد هوية جغرافية أو لغوية، بل هي مزيج معقد من التاريخ، الثقافة، والعقيدة، تمثل أساسًا مشتركًا يجمع بين ملايين الناس في مختلف أنحاء العالم العربي. إنها ليست حالة من الانتماء فحسب، بل هي حالة من الوعي الذاتي، الذي يتجلى في جميع أبعاد الحياة اليومية. هي نبض القلوب التي تتفاعل مع شروق الشمس في بغداد، وتواكب غروبها في تونس، وتتسم بالمرونة اللازمة لمواكبة الزمان والمكان، دون التفريط في جوهرها الذي لا يلين.
في كل منطقة من مناطق العالم العربي، تجد أن العروبة ليست مجرد فكرة من الأفكار التي يتم تمريرها، بل هي أسلوب حياة. في العروبة تتشابك الأقدار والتجارب المشتركة من خلال العادات والتقاليد التي تتوارثها الأجيال، وهي الموروث الذي يستمد منه الأفراد عزتهم وفخرهم. لذا تظل العروبة هي الرابط الذي يجعل من كل عربي، أينما كان، جزءًا من مجموعة متماسكة تهتم بالآخر وتدعمه في لحظات الشدة.
- العروبة أبعادٌ ثقافية ودينية
العروبة تتجاوز كونها مجرد لغة تجمعنا. هي منظومة متكاملة من القيم والمعتقدات التي شكلت نظرتنا إلى الحياة والكون. على المستوى الثقافي، تعتبر العروبة أرضًا خصبة للإبداع الأدبي والفني. يظل الأدب العربي، بأشكاله المختلفة، أحد أكبر أدوات التعبير عن العروبة في كافة أبعادها. من الأدب الكلاسيكي الذي أضاءته روائع الشعر العربي مثل “المعلقات” و”قصائد الجاحظ” و”أدب العقاد”، إلى الأدب الحديث الذي كتب عن قضايا الحرية والكرامة والعدالة، مرورًا بالأدب الشعبي الذي يحتفظ بعراقة العادات والأمثال العربية.
وفيما يتعلق بالفن، فإن العروبة تجسد جمالية الألوان والأصوات في لوحات فنية موسيقية تأسر القلوب، بدءًا من الموسيقى التقليدية في قصور الأندلس، إلى الألوان النابضة بالحياة في لوحات الفنانين العرب المعاصرين. كما أن العروبة تشمل جوانب دينية عميقة، حيث يشترك العرب في العديد من القيم الدينية والروحية التي ساهمت في تشكيل هويتهم الجماعية. الدين في العروبة ليس مجرد إيمان فردي، بل هو تعبير مشترك عن هويتنا التي توحدنا في وجه التحديات.
- العروبة تحديات وصمود
رغم كل هذا الغنى والتنوع، تظل العروبة تواجه تحديات متعددة. في خضم الصراعات العديدة التي عاشتها الأمة العربية خلال القرون الماضية، تواجه العروبة اليوم محاولات للتغريب والتشويش على هويتها. فمع العولمة التي تفرض ثقافاتها بشكل متسارع، تتزايد الضغوط على قيم العروبة لتبقى ثابتة في وجدان الشعوب.
هناك أيضًا التحديات الداخلية التي تتمثل في النزاعات والصراعات المحلية بين بعض الدول العربية، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من التفكك والانقسامات. هذه التحديات قد تؤثر في قدرة العروبة على استعادة تماسكها الجماعي الذي ميزها في الماضي. لكن، ورغم كل هذا، تبقى العروبة حية في وجدان المواطن العربي الذي يشعر بالعزّة كلما ردد اسم وطنه أو تحدث عن حضارته وتاريخها المجيد.
- العروبة في الأدب والفن
من أبرز الساحات التي تعكس جوهر العروبة هي الأدب والفن. إن الأدب العربي قد استطاع أن يعكس مرونة العروبة، بما يترجم حالات الإنسانية والهموم المشتركة في جميع فتراته. من الأمثلة على ذلك، الأدب الذي ظهر في ظل القومية العربية والذي جلب معه إحياء للموروث الثقافي العربي في محاولة لإعادة التوازن في مرحلة ما بعد الاستعمار. كما أن الشعر العربي – بداية من الشاعر الجاهلي إلى شعراء العصر الحديث – كان دائمًا يحمل شعورًا بالمشترك الإنساني العربي، ومناصرة القضايا الكبرى، مثل الحرية، والمساواة، والنضال.
وفي الفنون التشكيلية، نجد أن العروبة كانت دائمًا مصدر إلهام للفنانين العرب في نقل ما يعبر عن وجدان الأمة. من اللوحات التي تصور المدن العربية القديمة، إلى الأعمال التي تسلط الضوء على تاريخ العرب وتراثهم، يعكس الفن العربي مشهدًا حافلًا من التغيرات الثقافية والسياسية التي مر بها العالم العربي. كما أن الموسيقى العربية بمختلف أشكالها من ألحان ومقامات تعتبر مرآة لروح العروبة، تواكب التغيرات وتظل متجددة في كل مرحلة.
- العروبة منطلقٌ للمستقبل
في ضوء هذه التحديات، تبقى العروبة أساسًا قويًا ينبغي الحفاظ عليه لتكون حجر الزاوية في بناء المستقبل. في عالم يتغير بسرعة، تحتاج الأمة العربية إلى أن تنظر إلى العروبة ليس فقط كرمز للماضي، بل كقوة حية يمكن أن تكون مصدر إلهام للأجيال المقبلة.
التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم العربي يجب أن يرتبط بالعروبة كمرتكز قوي يوجه هذه التغيرات بما يتناسب مع القيم الإنسانية التي نشأ عليها العرب. العروبة هي منصة للحوار الثقافي والتعايش بين مختلف الأعراق والديانات، وفي ذات الوقت، هي مسار نحو بناء مجتمع يطمح إلى العيش بسلام ورفاهية.
إن العروبة في المستقبل يجب أن تحتضن التنوع الثقافي واللغوي بين أبناءها، بحيث يتم التأكيد على التنوع باعتباره قوة وليس تهديدًا. علينا أن نحتفظ بالعناصر الأساسية التي تجعلنا عربًا، مثل اللغة، والإيمان بالقيم الإنسانية النبيلة، ولكن علينا أيضًا أن نتكيف مع تحديات العصر بما يضمن للعروبة البقاء والازدهار في العالم المعاصر.
- ختامًا.. العروبة قوة لا تموت
العروبة هي قوة لا تموت، هي تلك الروح الحية التي تسكن في أعماق كل عربي. هي جزء من عروقنا ودمائنا، لا تتغير بتغير الزمان والمكان. إن الأمة العربية، بشعوبها وأرضها وثقافتها، يمكن أن تبني مستقبلاً أفضل إذا ما تمسكنا بجوهر العروبة وتمكنا من تجاوز التحديات التي قد تواجهنا. العروبة ليست مجرد ماضٍ نحتفظ به، بل هي مستقبَل نبني من خلاله غدًا مشرقًا للأجيال القادمة.
تظل العروبة هي الفخر، والإرث الذي لا ينقضى، هي العزة في الحاضر والمستقبل. من خلال التمسك بقيم العروبة الحقيقية، سنظل نثبت للعالم أن هذه الهوية ستظل قائمة، مهما تغيرت الأحوال، وأننا سنظل مرتبطين بتاريخنا العظيم وأرضنا الطيبة، مهما ابتعدت المسافات.
جميلة
إعجابإعجاب
سلمت وغنمت اخي
إعجابإعجاب