زوج بائعة الزّعتر

زوج بائعة الزّعتر

اللوحة: الفنان النرويجي ثيودور كيتلسن

شهربان معدّي

جلس رفيق بعد ورديته الطويلة في السجن، يزدرد طعامه بصمتٍ بل بالكاد يمكنه أن يبتلعه! حتى بلعومه يرفض ابتلاع هذا الطعام الذي اعتاده منذ أكثر من ثلاثين سنة. تبًّا لهذا العمر ما أقصره! مرَت ثلاثون عاماٌ وهو مسجون هنا مع هؤلاء السجناء وهو مثلهم تمامًا، ينتظر أن يحال على التقاعد ويحصل على حريته وينطلق كسحابة بين الجبال.

– مسكين أنت يا رافي اّه لو أدرك الآخرون أنه لا فرق بين السجان والمسجون..؟ كلاهما مغلوب على أمره.. صحيح أنك يا رفيق أنجزت كثيرًا من المهمّات خلال خدمتك في هذا السجن اللعين.. واستطعت أن تشتري دونمين من الأراضي الصالحة للبناء، عمرت بيوتًا وزوجت أولادًا، وصحيح أنك حصلتَ على اللّقب الأول خلال السنين التي هدرتها في هذا السجن التعيس، ولكن ثمة شيء ينغص حياتك يا رفيق؟

زوجتك سعاد.. ابنة عمك! وأنت تتوق لحل العقدتين معًا والتحرر من السجنين للأبد، لكن ليس بوسعك أن تتحرر من سجن الزوجية لأنه سجن أبدي لن يحطم أسواره غير الموت أو.. الطلاق!

– الطلاق..؟ ماذا لو طلّقت سعاد! هل ستقوم الساعة وتنطبق الأرض على السّماء..؟ 

– وأختك ميثاء يا رفيق.. وزواج البدل هذه الصفقة الحمقاء، التي أبرمت بحقّك قبل ثلاثين عامًا دون إرادتك، يا إلهي! ما ذنبي يا أختي ميثاء إن كنت شحيحة النظر! لأدفع ثمن ذلك عمري كله..؟ وهل العمر قليل..

قلب رفيق رزنامة عمره للوراء، وشعر بغصّة في حلقه عندما تذكر كيف لكزه جده المرحوم بعصاه وقال له: “لا تتمرد يا ولد! سعاد ابنة عمك من لحمك ودمك وعلى قول المثل نقطة من دمك تحمل همّك.. ولا تنس أن أختك ميثاء شحيحة النظر ولا ينتظرها العرسان بالطابور، افهم ماذا أقوله يا ولد”

ولكن بعد هذا العمر الطويل وبعد أن رحل جدّه ووالده رتّب رفيق كل أموره وهو لا يريد أن يفهم شيئًا سوى أنه يريد امرأة أخرى مغايرة عن سعاد.. امرأة..؟ تلمس روحه وتدلله كطفل صغير وتفهمه دون أن ينبس ببنت شفة.

– أنا لا أنكر يا سعاد أنك تحملت الكثير وكنت سقفاً لهمي! عندما تزوجنا كنت لا أملك حائطًا أدق به وتدًا.. الهم كان كبيرًا والموارد قليلة، وقد رفضت أن تقفي مكتوفة اليدين! لقد دفعتك النخوة والأريحية أن تجوبي البراري والجبال لجمع الزعتر وبيعه بأزهد الأثمان حتى لا نمد يد الفاقة والعوز لأحد، تعبت كثيرا معي يا سعاد! كنت لا تتكلمين ولا تشكين، إنكارك لذاتك قتلني يا سعاد، أنا أحب أن تكون المرأة متمردة قوية، بينما أنت مثلت دور المرأة المسالمة الضعيفة التي أكرهها يا سعاد! لم تكترثي لغير جمع الزعتر ومنحي المال وأصبحت الآن في غنى عن هذا وذاك. أريد امرأة بكل معنى الكلمة..؟ تشاركني ما تبقى من عمري القليل واصطحبها للمنتجعات والفنادق، حتى البطاقات المجّانية التي كنت أحصل عليها من سلك الشرطة كنت أفضّل أن أمنحها لأخوتي وأولادي، كي لا أصطحبك معي لأي مكان..؟ كم أنا منافق وأناني يا سعاد.. وكم أنت امرأة صافية القلب كالفضة الخالصة، لم تشُكّي يومًا في سلوكي ونواياي.

– ماذا لو انفصلنا يا سعاد..! كبر الأولاد ولن يحتاجوا لنا بعد اليوم، ماذا لو تطلقنا..؟ ولكن هل تستطيع يا رفيق أن تضرب بعرض الحائط قول أمك “إن أردت أن تعادي قوما خذ منهم وطلق، تريث يا بني لأن العشرة تورث الحب” 

– عن أي حب تتحدثين يا أمّي..؟ لقد بعت روحي قبل ثلاثين عاما وسأحاول استعادتها الآن.

– وماذا عن أختك ميثاء يا رفيق..؟ لديها كومة أولاد.. 

آهٍ يا أختي ميثاء يا وجعي الكبير تبًّا لزواج البدل وتلك الصفقة الحمقاء. لقد عيل صبري يا أمي، لا تناديني رفيق! أنا أدعى رافي كل زملائي في السجن ينادوني يا رافي.. وفي القرية لا أعرف بغير زوج بائعة الزعتر.. تبا للزعتر وتبا لرفيق.. ماذا لو ضبطني زملائي في العمل وأنا أحمل سلة الزعتر وأتجول في البراري وراء سعاد كالمعتوه لماتوا ضحكًا علي..

عاد رفيق يفكر بروية وعمق، ماذا لو ماتت سعاد.. حقا..! ماذا لو ماتت! لماذا لا يأخذها لأحد الأماكن النائية وهناك.. يترك لمكابح السيارة العنان بعد أن يقفز منها وينفض يديه للأبد من هذه الصفقة الملعونة، ولكن ماذا لو نجت؟ سعاد امرأة لا تموت..!؟ إنها امرأة قوية كالحصان رغم ضآلة قامتها.

– إنك لا تخشى الله يا رفيق! سعاد زوجتك أم أولادك ربتهم أفضل تربية، سندت ظهرك في السراء والضراء، يا عيب الشوم عليك، يا ناكر الجميل وجاحد النعمة، بعد كل هذا العمر تريد أن تتخلص من سعاد! بدل أن تكرمها بعد هذه التضحيات؟

قطع حبل أفكار رفيق صوت رنين هاتفه الجوال، نظر إلى الرقم كان من منزله..؟ تبًّا! هذه سعاد امرأة لا تعرف الشبع.. 

طبعا تريده أن يعود باكرًا من ورديته كي يصطحبها لجمع الزعتر، الموسم في آخره وهي تريد أن تدخر كمية تكفي مؤونة السنة.

قطعا لن يجيب على الهاتف، رفيق سيتحرر من كل هذه القيود ورحلة المائة ميل تبدأ بخطوة واحدة، رافي قرر أن يتحرر من السجنين في آن واحد.

عاد جواله يرن مرة أخرى، نظر رفيق للرقم بقنوط كان الاتصال من منزل أهله، لا بد أنها سعاد قد دفعت أمه للاتصال به كي يعود باكرًا، كي يذهبا لجمع الزعتر، ولكنه..؟ حتما لن يرد! ولن يعود باكرًا.. المرة سيثبت للجميع أنه سيّد نفسه.

أقفل رفيق جواله بإصرار وارتشف قهوته المعتادة بفتور وعاد لورديته وهو عاقد العزيمة على تنفيذ مخططاته الجهنمية.

لم تمر سوى دقائق معدودة على جلوس رفيق على مقعده حيث أقبل أحد زملائه السجانين واستدعاه إلى غرفة مدير السجن، شعر رفيق بالتوتر والقلق؛ فهو لم يصرّح لأحد من زملائه عن نواياه الخبيثة، ماذا يبغي منه مدير السجن، سجله نظيف وسيرته حسنة ما الخطب يا إلهي!

وجد رفيق في غرفة مدير السجن أخصائية نفسية وعاملاً اجتماعيًّا ينتظرانه برفقة المدير المخضرم وزمرة من زملائه السجانين، شعر رفيق بالدوار وارتخاء في قدميه عندما قال له مدير السجن في حزن وأسى: 

– أنا آسف يا رافي زوجتك قضت نحبها، عندما لدغتها أفعى وهي تجمع الزعتر من إحدى البراري، كلّنا آسفون يا رافي، لن ننسى كرمها قط، وفطايرها الّلذيذة التي كانت ترسلها لنا معك في موسم الزّعتر..

رأيان على “زوج بائعة الزّعتر

  1. أتمنى أن أبقى عند حُسن ظنّك
    أستاذي الفاضل.
    الحياة تُبهرنا في كلّ الأحوال.
    كم شرّفني عطر مرورك.

    إعجاب

اترك تعليقًا على maherdallash إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.