اللوحة: الفنان الأكراني إيفان إيفازوفسكي
في رواية «التفاحة والجمجمة» للروائي «محمد عفيفي»، تحطمت سفينة في وسط البحر، ولجأ من نجا منها إلى جزيرة، وكان في الناجين «مهندس» يفهم في صناعة المراكب، فأرشدهم لصناعة مركب من أشجار الجزيرة، ركب الناجون وغادروا الجزيرة ومعهم زاد يكفي أياما طويلة، وبعد أن ابتعد المركب عن الجزيرة، ابتلعته موجة ارتدادية دارت به حول الجزيرة عدة مرات ليستقر في النهاية على شاطئها، كرروا المحاولة مرات عديدة، وانتهوا إلى نفس النتيجة المخيبة للآمال، بعد تفكير توصل المهندس إلى نطريه، قال:
«التيارات المائية في هذا البحر من دأبها أن تتجه إلى الجزيرة في دائرة حلزونية، وبعد أن تصطدم بأرض الجزيرة، ترتد عنها بفعل الصدمة ولتفسح الطريق للتيارات الأخرى التي لا تبرح تتدفق على الجزيرة، وبهذا فهناك تيارات تبتعد عن الجزيرة مثلما هناك تيارات تتوافد عليها، وتتحرك في حركة حلزونية مشابهة، فلنبحث عن هذه التيارات ونركبها وتحملنا للخارج، ونحن لم نعثر على هذه التيارات لأننا كنا نغادر في خط عمودي، فلو سكن المركب على الماء سوف تبتلعه موجة للخارج مثلما ابتلعته من قبل موجة للداخل». وكانت هذه الفكرة سببا في الخروج من الدوامة وبداية رحلة العودة للوطن.
في هذه القصة لم يتوصل للحل إلا الذي لاحظ وفكر وقارن، وليس الذي ظل يذهب ويرجع لنقطة الصفر بلا نهاية.
***
في رحلة الدين والدنيا، هل يوجد فينا من يظل طوال عمره يتحرك للأمام وبعد أن يقطع مسافة كبيرة يجد نفسه يرتد رغما عنه إلى النقطة الأولى، ويظل عمره كله في هذه الدائرة المغلقة والغير منجزة؟
***
قال صديقي حين كنت أعمل معه بالمملكة العربية السعودية: «ألا تأتي معي غدا لنؤدي العمرة ونغسل ذنوبنا!»
في الماضي كان مفهوم «غسيل الذنوب بالعمرة» تستسيغه عقليتي، ولكني اليوم أجد صعوبة في تمرير هذا المفهوم، لأنه يعبر عن العقلية التي احتلت الأجيال خلال القرن الأخير، عقلية ترى الذنوب مثل العرق والغبار وما ينفلت من جسد الإنسان، وينظف بمعالجة مادية مثل الاستحمام، ففي العمرة ثواب ومغفرة، وفي الصلاة بمكة والمدينة ما يعادل مئات الآلاف من الصلوات، وبهذا فما فرط في سنوات طويلة رحلت وبعدت، يمكن التطهر منه في أيام معدودات، وبهذا نحن نفكر بعقلية «الغسيل» وليس عقلية «التغيير»، هذه العقلية أشبه بقصة الدوامة، تقدم في خط مستقيم ثم عودة سريعة لنقطة البداية.
«إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد:11). طلب الله تعالى منا أن نغير ما بأنفسنا، التغيير لا الغسيل، تغيير يغلق مسام الخطأ والضلال ويفتح مسام الصواب والصلاح.
قال الله تعالى: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم» (الشعراء – 88) قلب سليم وليس نظيفاً، من يتأمل هذه الآية يدرك أنها ليست عملية تنظيف بل إصلاح، ولهذا تكرر كثيرا في القرآن الكريم «الذين آمنوا وعملوا الصالحات». المشاعر السيئة تنتج أفعالا سيئة، بدلا من غسل الذنوب الناتجة عن أفعال سيئة فلنغير الأصل، نغير مشاعرنا السيئة، فتتبدل إلى مشاعر طيبة فتنتج أعمالا وأقوالا طيبة، وهذا مثال التغيير.
***
عندما يأتي رمضان ينحصر هَم ونشاط المسلمين في: عدد «أيام صوم – ركعات تهجد – صلاة بالمسجد جماعة – ابتهالات وأدعية في أوقات ظن الاستجابة – حروف القرآن التي حصل عليها مضروبا في عدد الختمات – العُمرات – الركعات بالمسجد الحرام أو النبوي – ثواب ليلة القدر»
أعدادا كثيرة، كلها تشير إلى أنه شَهر تجارة ومقايضة وبيع وحساب، والبائع إما رابح أو خاسر، وليسامحنا الله حين حفظنا مصطلح «التجارة مع الله»، ولم ندرك جوهر معنى «الصلة بالله»، فما بين التجارة والصلة والوصال بون شاسع وفضاء واسع.
بعد كل هذا النشاط الجماعي والفردي، علينا أن نتساءل عن حال الناس، هل يخرجوا من رمضان بنفس الحال الأول أم نلمس فيهم تغيير، فيكونوا أكثر صلاحا وسلاما ورحمة وسعة صدر؟
هل فيهم من كان «يكره فأصبح يحب؟ – يقسو فأصبح يرحم؟ – يطمع فأصبح يزهد ويؤثر؟».. من الذي تغير؟
يدخل أغلب الناس رمضان ويغادروا بلا تغيير، لأنهم تعاملوا معه كشهر غسيل ذنوب وليس تغيير وإصلاح.
***
«من يشعر بالوحشة، فهو مصر على القطيعة، فالكرم واسع، والمِنَّة فائضة، فلماذا لم يمتلئ إناءك الصغير بعد؟، أنت مُدبر من حيث تظن أنك مُقبل».
كلمات حين نعقلها يكون رمضان غير كل ما فات، وحين نهملها ونستهين بها، يكون رمضان زي كل رمضان، وأيام زي كل الأيام، وغفلة زي كل الغفلات، وكبسة زي كل الكبسات، ولا تغيير، ولا اقتراب، ولا وصال، ولكن آلة حاسبة تحسب الصلوات والدعوات والتسبيحات والآيات، والبضاعة سُكبت في الإناء، ولا ندري أنَّه ربما (منكوس أو مائل أو مثقوب)، «وكأنك يا أبو زيد ما غزيت».
***
وقعت أميرة في أسر أعرابي، وعرض عليه قومُها أن يطلب ما يشاء من الأموال، فطلب مبلغا قليلا جدا (مائة دينار)، وبعد أن أطلق سراحها قالوا له: «لو طلبت مائة ألف لأعطوك؛ فهي سيدة قومها»، فقال: «لو أعلم أنَّ هناك عدد فوق المائة لطلبت!»
هذا الرجل تسببت معرفته القليلة في أنْ جاءته فرصة مثل البحر، فنال منها شربة وانصرف.
فإناءه معرفته قليلة.. ولهذا فاتته فرصة هائلة ونادرة يصعب تعويضها.
***
في مسرحية الزعيم؛ قابل عادل إمام، «المنتحل شخصية رئيس الدولة» مُخْبرا في قسم بوليس، احترمه وهابه بشدة، في حين كان مستهينا حين قابل رئيس دولة، فلما أخبروه بمنصبه، قال: «تقصد زميل».، وكأنه يقول أنه موظف مثله، أي مازال أقل من منصب مخبر.
فبحسب قِيَمَه وخبرته القديمة كان المخبر في روعه، الرمز الأقصى للسلطة والنفوذ والرعب.
***
عندما نرى مشهدا لرجل له سلطة ونفوذ، ويوجه له شاب كل أنواع الإهانة والاستهانة، ويظل صاحب النفوذ ساكنا وملاطفا له ويدعوه للسكينة بهدوء وحلم وشفقة، فلا تصدر منه مشاعر سيئة، تغمرنا الدهشة والتساؤل، ولكن حين نعلم أنَّ صاحب السلطة هو والد الشاب، تتراجع الدهشة، ولكن نظل نتساءل!، حتى لو كان هذا ابوه، فلا يجب أن يسكت عن هذه الوقاحة والتجاوز، وعندما نعلم أن الشاب متوقف النمو، ويحمل عقلية طفل، نفهم المشهد كاملا.
فالمسافة بين عقل الرجل والشاب الذي بعقل ونفسية وعاطفة طفل؛ كبيرة جدا.
هل نتعلم من هذا المثال أن نعامل الناس بقدر إيماننا، فنشفق على من في مرحلة الطفولة الإيمانية، ونرحم وعيه الساذج، فربما ينفعه هذا الرفق فينضج إيمانه وتسمو نفسه.
***
من المشاهد المتكررة في السينما الأمريكية انتظام الأمريكي مع طبيب نفسي، وهذا قليل في مجتمعاتنا بسبب الثقافة والفقر، ومن المشاهد المتكررة مشهد البنت أو (الولد) تزور الأب أو (الأم) بعد مقاطعة سنين طويلة، فكل محاولات التفاهم بينهما عبر السنين كانت فاشلة وتنتهي بشجار مؤلم، تجلس البنت أمام الأب المندهش واليائس من التفاهم، وتقول له في نبرة وكأنها تدربت عليها بتوتر أياما طويلة: «لقد نصحني الطبيب أن أزورك وأن أقول لك أنني أسامحك، وأخبرني أنَّ زيارتي والبوح لك بما في نفسي، هما خطوة كبيرة تجاه شفائي»، وتظل تتحدث معه أو معها في سلام ويكون اللقاء قصيرا ثم تنصرف ونادرا ما تعود.
في هذا المشهد نرى أن المشاعر السيئة والخِبرة النفسية الحساسة والمتوترة تؤلم الإنسان نفسه وليس من وجهت له سهام تلك المشاعر، تؤلمه طول الوقت وتعطل وتُفشل مسار حياته، ويصعب تجاهلها، تكون مثل من يتجاهل ألما مزمنا في جسده، فالمشاعر السيئة بلوى مثل الجروح والأورام الملتهبة التي تتفاقم كلما بقيت دون مواجهة.
ولهذا يقال بالعربية: «يحمل ضغينة» و«يُكن حبا»
فالضغينة والحقد والكره والغيرة والحسد كلهم مشاعر ثقيلة يحملها القلب والصدر، بينما الحب والود والرحمة كلهم مشاعر لطيفة تسكن هادئة وهانئة في النفس وتشع سلاما.
