مدرس فرنساوي

مدرس فرنساوي

اللوحة: الفنان الألماني بول كلي

“حمدي، مدرس فرنساوي” اسمي: حمدي

بتحديد أدق: حمدي عبد السلام، مدرس فرنساوي

ثلاثون عامًا مضت وأكثر على ممارستي مهنة التدريس، لا أخفي أنني جمعت ثروة لا بأس بها سواء من السفر سنوات في الخليج، الدروس الخصوصية، التقتير على نفسي وآخرين من حولي لكي أصل لما أنا عليه الآن.

لكن.. ما هذا الذي أنا عليه الآن؟ 

ثلاثة عقود كاملة بل وتزيد تبخّرت في الهواء، لا زلت كما أنا، أقف عند العتبة الأولى من الحياة، رغم أن أرصدتي المالية في البنوك تضمن لي حياة جيدة ما تبقي من عمري بجانب بضعة عقارات متناثرة في المدينة وفي أخرى ساحلية، لكني لا أعلم ما أصابني منذ أيام، قبل أزمتي هذه كنت أسير في طريقي الذي لم أشارك في صُنعه من البداية، شأن كل بني آدم جاء إلى الدنيا، ألقي بي فيه، طريق أرغمت عليه، ثم ألفته، تكيّفت معه، لقد نفدت السنوات وتعلّقي بهذا الوهم يتضاعف ويتضخم.

أنا حمدي عبد السلام درويش، مدرس فرنساوي..

 أقترب من سن الإحالة للمعاش من الوظيفة الحكومية في التعليم على رغم أنني قضيت غالبية هذه المدة في اجازات غير مدفوعة الأجر. سن الستين رقم حين أصل إليه أجدني مجبرًا أن أتنحى قليلًا وأفسح الطريق لغيري، فالجياد كثيرة، الرغبة في السباق أكبر، المضمار لا يرحم الشيوخ من البشر والبهائم.

أنا حمدي مدرس فرنساوي..

 شيخ وقور هكذا أبدو في أعين الناس هكذا يبدو لي. تصفحت منذ ساعات أرصدتي بمحفظتي الإليكترونية، من الجنيه والعملات الأجنبية، استوثقت من الودائع وإضافة فوائدها الشهرية في مواعيدها، لكم أثارت حفيظتي الاستقطاعات التي تفرضها البنوك على حساباتي لديهم، يفعلون ذلك بصورة دورية تحت ذرائع ومبررات شتّى، لكني أغفر لهم ذلك لقاء أمن وتأمين أموالي لديهم.

 لا شيء في الحياة بالمجان، فما أسوأ أن ينظر الآخرون إلى ما بين يديك، كلّ يرى النتيجة ولا أحد منهم يرغب في معرفة بدايات الشقاء والتعب.

في حركة لا واعية فتحت ملف اكسيل على جهاز “اللاب توب”، ثم وضعت فيه أرصدتي كلها بعد تحويلها إلى ما يقابلها بالجنيه، قسمتها على ما تبقي من سنوات سأعيشها، استخرجت متوسطًا حسابيًّا، فعلت ذلك على خلفية أن الباقي المتوقع من عمري هو عام أو عامان أو خمسةُ سنوات أو عشرون أو ثلاثون.. على فرض تحقق ذلك فلا أظنني سأتجاوز التسعين.

 ضحكت من فرضيتي هذه، ثم قلت لنفسي: لمَ لا؟ الأعمار بيد الله عزّ وجلّ، جدتي لأمي عاشت فوق المئة وسبع سنوات ولعلي ورثت عنها طول العمر.

لكن.. ماذا أفعل بكل هذا المال؟ 

أنا حمدي مدرس فرنساوي..

 ألزمت نفسي بطريقة عيش عنيفة، ساعات قليلة للنوم، جري بقية اليوم بنهاره وليلة وراء لقمة العيش، لا أنكر أن اكتساب المال في حد ذاته متعة أدمنتها لذاتها، كما أن استمرار اكتنازه يصبح شهوة ترتفع إلى مرتبة الشبق. لكنها –الآن- قيد يطوّق عنقي، لا أستطيع أن أتوقف، لا فارق بيني وبين من يدمن المخدرات.

أنا حمدي عبد السلام درويش سعيد..

 خارج “سنتر الفرنساوي” الذي شيّدته في عمارة أمتلكها من ستة طوابق، أوقفته كله لتدريس اللغة الفرنسية، أقمته بمنطقة تقع على أطراف المدينة، بمعزل عن أعين المنافسين من الزملاء في المواد الدراسية الأخرى، احتميت فيه وبه، لذلك يساورني القلق إن ابتعدت عنه ولو بضعة أمتار قليلة.

لم أحد عن الفضيلة كمعيار أعيش به، لقد تنزّهت عن كل شهوة يفعلها غيري، أو هكذا توهّمت، لم أنحرف كما لم أدخل في علاقة من أي نوع. لم أتزوج إذ يقيني أن الخير كل الخير للمرء أن يغادر الدنيا دون أن يترك خلفه ظلًا يتمدد، أو وزرًا يحمله في آخرته على كتفه، فإن لم يكن لي خيار في الوصول إلى الدنيا فلا أقل من أن أمنع غيري من الوصول إليها مجبرًا. 

لعلي آمنت بهذه القاعدة واتخذتها سنّة لحياتي تحت تأثير العوز، حلم الثراء الذي انكببت على تحقيقه طيلة أربعة عقود تقريبًا. ظلت آفتي قديمًا أن أبحث عن نفسي، أن أصنع لذاتي وجودًا وبصمة أينما مشيت. فما أبشع أن تصبح هذه الحياة عبثًا وعبئًا على صاحبها.

قد خلقت لنفسي حياة ترضي قناعاتي، تسمح لي أن أضع رأسي على وسادتي كل ليلة لأنام شبه هانئ.

 بمرور السنين أصبحت علمًا في مهنتي، راهبًا في موطني، لا أرى من العالم الخارجي غير ما يسمح به وقت فراغي الضيق، الفواصل الزمنية الضئيلة بين تصفحي لحساب بنكي وآخر- عبر تطبيق انستا باي- أو ربما دقائق عبر شاشة تلفاز مقاس اثنين وثلاثين بوصة معلقّة على جدار بمكتبي. أرقب العالم الخارجي عبر زجاج لا أكثر، قد أنبهر بالصورة دون أن أتأثر بشيء أبدًا.

أنا حمدي عبد ال…..

 يراني الآخرون حقيقة ملموسة، أقترب من الستين، يحدوني أمل أن أكسر الرقم العائلي في طول البقاء، وإن كنت لا أعلم ما الغاية من العمر الطويل إلّا أن يكون عبثًا يُضاف إلى كومة كبيرة هي حياتي.

لكن…

كيف أبدأ من جديد. بل كيف أصل إلى ما فقدته في العقود السابقة. أليس معنى هذا أن وجودي الحالي محل شكّ، أنني بصدد البحث من جديد عن معنى للحياة. هل وجودي الجديد على فرض أنني أدركت ماهيته أو وصلت إليه يكون على جثة السابق.

 هل أتخلى عن الفضيلة التي احتميت بها واختفيت بأعماق عباءتها. بل ما الفضيلة إذن.

هل أعب من متع الحياة وأنا شيخ. أقادر على الاستمتاع بها كم يفعل الناس. لكم حاولت قبل أشهر أن أصل إلى لعوب أعجبتني، التقيتها فبعثت حرارة في الرماد غير أني وقفت أمامها عاجزًا، لم أع معنى العجز إلّا في تلك اللحظة.

 كنت على استعداد أن أمنحها جزءًا لا بأس به من ثروتي الطائلة شريطة أن أجتاز العتبة الأولى، لما يئست المرأة وأصابها الضجر من طول الانتظار، لوّحت في وجهي ومضت، ما دفعني أن أرجئ الموقعة حتى حين. 

أنا حم…………… 

موجود في هذه الحياة، أمقت الفرنسية من أعماقي، مرغم على تدريسها. كاره لكل وجود ينفي وجودي على فرض وجوده.

رأي واحد على “مدرس فرنساوي

  1. قرأت القصة والتي يمكن أن اسميها قصة (حمدي المتآكل) فالبطل تآكل مع الزمن وتآكلت رغباته وقدراته التي نسيها مع الزمن وانشغاله بجمع المال واهلاك نفسه
    جملة ( انا حمدى) هى نقطة ارتكاز الوعي الذي ينداح في دوائر تذكاراته فتتسع تتسع ليجد نفسه مضطرا إلى العودة إلى نقطة الارتكاز (انا حمدي) مرة أخرى لتعاود دوائر الذكريات في الاندياح مرة أخرى يكاد يتلاشى فيها .. فيعود مجددا لنقطة الارتكاز (أنا حمدي) وهكذا دواليك.
    إننا اذا أردنا صورة تمثيلية لحالة الكاتب فإن سيمفونية دقات القدر لبتهوفن هي الأقرب لمماثلة هذه القصة وتصبح جملة ( أنا حمدي ) تعادل هي جملة الارتكاز في السيمفونية (صوت طرقات القدر) الصاخبة الواضحة التي تنبه مبدعها لنقطة ارتكاز ثم تنساب الحركات الموسيقية اشبه باتساع دوائر الموج … اعجبتني القصة .. ويسعدني أن أقرأ دوما جديدك

    إعجاب

اترك تعليقًا على أشرف أبوجليل إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.