اللوحة: الفنان الإنجليزي ديفيد روبرتس
د. خالد عزب

قد يثير العنوان استغرابك القاريء، هل نحن في حاجة للبحث عن مصر، سأقول لك: نعم، ولم لا ونحن ندرك أننا غرباء في الوطن، وأعظم تجليات هذه الغربة هي العمارة، وهي الصورة التي تجسد وضعنا داخل الوطن، ومكاننا في الوطن، ومدي إرتبطنا بالوطن، وما سنتركه للأجيال القادمة من إرث، وما نقرأه عبر ما تركته الأجيال السابقة علينا من إرث. إذا أردنا التفكير في العمارة علينا أن نفكر بصورة عميقة، لأنها ليست بنايات تشيد فقط، بل مكان نعيش فيه ويعيش فينا، نتفاعل معه ويتفاعل معنا، هذا ما ولد علمين هامين هما علم الاجتماع المعماري وعلم النفس المعماري، فالأول يبحث في علاقة الانسان بالمكان وتفاعله معه ومدي ملاءمة هذا المكان للأفراد والمجتمع، والثاني علم يبحث في كيفية تأثير المكان في الإنسان وتأثير الأنسان في المكان، وهو ما مهدت له تفاعلات الإنسان مع جماليات العمارة، فالعمارة التي تبعث علي البهجة ليس بزخارفها لكن بقدرتها علي جذب نفس بها بعد إنساني هي العمارة التي تجعل الانسان يرتبط بالمكان وتبعث قيم أخلاقية واجتماعية وجمالية، عمارة الانسان مع المكان إلي درجة أحساسه بالغربة حين يترك هذا المكان، فمنزلك الذي تعيش فيه إما أن تندمج معه أو لا ولذا فتصميم المكان يلعب دورا في هذا، وإذا تركت منزلك ذا الألفة معك فأنت تشعر بالاغتراب.
لماذا العمارة تكثف المعني في حياتنا؟
المعماريون يبنون أشياء لها معني محدد متجسد فيها ويعتمد علي الثقافة التي تفسر المعني، فمثلا عبر فقه العمران نستطيع أن نقرأ العمارة الإسلامية فهو علم يقدم القواعد التي صاغت البيئة المعمارية في الحضارة الإسلامية، وفي الغرب صاغت العمارة في عصرنا فلسفة ما بعد الحداثة، حتي رأينا تماهي أبراج نيويورك مع الرأسمالية المتوحشة، وفي اليابان ما زالت منظومات القيم اليابانية تعطي المنزل الياباني تصميمه، خاصة في غرف تناول الطعام، لكن ما أفقد العمارة معناها لوكوربوزيه المعماري السويسري (1887 – 1965م) الذي مهد للتصميم المعماري بالجملة أي قولبة العمارة في شكل انتاجي متتالي متشابه يفقدها معناها فيصبح البصر فاقدا الشعور بالمكان وتميزه فالمدن كالانسان تمل من المشي في شوارعها إذا تشابهت، هذا ما يفسر الاقبال في العقود الأخيرة علي السياحة في المناطق الصحراية والغابات بعيدا عن مدن فقدت عمارتها المعني الذي تعطيه للانسان.
إن الظاهر من العمارة بداخله باطنا يحمل موروثات تعبر عن كل مجتمع، ولأن كل بيئة تعطي للعمارة مواد كان يبني بها بطريقة تعطي العمارة انسجاما مع البيئة، فإننا ذهبنا إلي الاعتماد علي الكتل الخرسانية والألمنيوم والزجاج في مدن مصر، بغض النظر عن ملاءمة هذه المواد لبعض البيئات، وارتفاع تكلفة المباني المنشأة بها، فأصبحنا نفتقد سحر المكان وخصوصيته وبات تقليد ناطحات السحاب الأمريكية كرمز للرفاهية هاجس العديد من المدن، لكن حتي في التخطيط العمراني فقد المشاة قدرتهم علي الصداقة مع شوراع المدن، في الوقت الذي تشكل فيه لافتات الاعلانات بأضوائها المستهلكة للكهرباء تشويه لجماليات المدن، كما أن امتدادات الشوراع تجعل سرعات السيارات والحوادث عاملا سلبيا وضد الانسان في الوقت الذي أثبتت فيه التجارب أنه يمكن التخلص من اشارات المرور وحوادث الطرق داخل المدن باحداث منحني كل 60 أو 80 متر، الشارع هو مفتاح العمارة فهو يمثل شبكة الربط بين الانسان والبنايات المعمارية فشبكة الطرق تسهل السير والوصول إلي مناطق الخدمات والتسوق والترفية.
لماذا نبحث عن مصر عبر العمارة؟
لأن مصر في العقود الأخيرة فقدت شخصيتها المعمارية، إلي درجة جعلت طرح بنايات جديدة يفتخر بأن تصميمها إيطالي أو اسباني أو أمريكي أو فرنسي، فكأن عامل الجذب صار عمارة ليست بها أي روح مصرية، في الوقت الذي كانت فيه مصرمنذ عقود قريبة تبلور شخصية معمارية خاصة بها، ويعود هذا إلي وعي النخب المصرية ومعها الدولة، فالكل في مصرسعي لهذا، منذ بداية تكون مصر الحديثة في عصر أسرة محمد علي ثم تمكن النخب المصرية من مفاصل السلطة في عصر الخديوي إسماعيل وصعود رأسمالية وطنية مصرية، كل هذا بدا كأنه يشكل وعيا ما يتطلب التعبير عنه في المدينة عبر العمارة، كان الخديوي إسماعيل أكثر ميلا للعمارة الفرنسية والإيطالية،مبهورا، لكن كانت الثقافة المصرية وروح الوطن تجبره علي وضع حد لهذا الانبهار، فلذا رأينا قاعة العرش علي الطراز المملوكي في قصر عابدين وهي التي جددت في عصر الملك فؤاد، جري حوار بين المعماريين الأجانب والملاك من المصريين والأجانب، فرأينا العمارة تأخذ روحا مصرية مع الوقت ومع نهاية القرن 19 وأول ثلاثة عقود من القرن العشرين رأينا القاهرة بها روح معمارية تعكس صراعا عنيفا حول هوية الوطن، فعمارة تريستا في وسط القاهرة تنفذ بعناصر وزخارف إسلامية، في حين نري عناصر فرعونية في عمارة الشواربي بشارع رمسيس، لنصل لضريح سعد زغلول الذي نفذ علي الطراز الفرعوني، اما مباني جامعة القاهرة فقد أتت القبة المركزية لتعبر عن مركزية العلم في المشروع الوطني المصري للنهوض، وعلي جانبيها كليتي الحقوق والأداب، وهما يرمزان إلي أنه بدون العدل لن تقوم مصر وتنهض وبدون العلوم الإنسانية ومنها الفلسفة التي تعلم النقد لن يكون لمصر مكانة، ويرتكز الجميع علي مباني كلية العلوم التي تمتد بعرض مساحة الجامعة خلف قبة الجامعة، وهذا يرمز إلي مشروع النهضة المصري الذي يرتكز وينهض بكافة فروع العلوم التطبيقية، هكذا عبر مصمم جامعة القاهرة عن مصر ومشروعها، كانت مصر الواعيه تدير حورات في الصحف وكانت العمارة هي الصورة التي تعكس هذا الحوار، فشارع رمسيس شيدت به جمعية الحشرات وجمعية الاقتصاد السياسي والتشريع علي الطراز الكلاسيكي الحديث وهو ما رأه المعماري ضروريا لأنه هذه العلوم وافده ونحن في حاجة لها، في حين صمم المهندس مصطفي فهمي مبني جمعية المهندسين علي الطراز المملوكي الحديث لأنه يعبر عن رغبة مصر في استعادة مجدها المعماري الذي بلغ ذروته في العصر المملوكي، ثم جاء مبني مستشفي الهلال الأحمر علي الطراز المعماري الاسلامي في ذات الشارع ليهدم ويأتي بعده بناية مستشفي لا روح فيها كما هي مصر المعاصرة.
إن علينا أن نراجع المشهد العمراني والمعماري في مصر، لأنه الصورة البصرية الباقية في حياتنا، فقد كانت مصر لسنوات يشاد بها وبعمارتها من الأهرامات إلي العصر الحديث، الأن المشهد بائس وكئيب، فغياب المسابقات المعمارية أدي إلي إدخال مهنة العمارة في مصر غرفة الانعاش تمهيدا لموتها، فالمسابقات خاصة في المنشأت العامة والمشاريع المعمارية توجد روحا تنافسية تجعل البلد يحصل علي الأفضل ابداعا وتصميما، كما أن مكتبة الإسكندرية أوقفت مسابقة حسن فتحي للمعماريين الشباب في ظل تراجعها عن أدوارها، والغريب أن هناك جيل من شباب المعماريين المصريين تركوا مصر مهاجرين، وبدأ صوتا مصريا خافتا يعلو عاما بعد عام في حقل العمارة في عدد من الدول مثل ألمانيا، إن نظرة فاحصة لشوارعنا سنجد أن عمارتها تبعث علي الكأبة في نفوس المارة فالعمارة إما تقدم روحا جمالية تبعث روح البهجة، أو أنها تساهم في تدمير الشخصية الوطنية، لذا رأينا شبابنا يسعي للقاهرة التراثية ووسط البلد في محاولة لاعادة اكتشاف ثقافتهم وتراثهم ومن ثم هويتهم.