اللوحة: الفنان الصيني زهي يونغ جينغ
سعاد الراعي

الفصل الثاني من رواية «خلعُ خاتم الطائفية»
في وطنٍ انكسرت فيه موازين العدل، وغابت فيه سلطة القانون لتعلو مكانها أعراف العشائر وأحكام الطوائف، وجدت عفراء نفسها عارية من كل حماية، لا سلاح لها سوى الصمت والدموع. الليل عندها كان أثقل من أعمار الدهر كله، يمتد كأبدٍ موحش، والنهار يتحول إلى ساحة حصار لا مخرج منها ولا ملاذ.
ومع ذلك، تسلّل إليها خيط أملٍ واهن، كوميض شمعة في عاصفة، عبر يدٍ صديقة قديمة ترتبط بقرابةٍ بعيدة لعائلة زوجها، ما سمح لها بطرق باب عزلتها دون ريبة. تلك اليد خبّأت لها سرًا ثمينًا: هاتفًا صغيرًا كان أهل عفراء قد تركوه أمانةً عندها قبل أن يغادروا العراق، علّه يكون جسرًا يوصلهم بابنتهم الأسيرة خلف جدران الخوف.
أخفت عفراء الهاتف كما تُخفى الروح بين ركام التأني، تغلّفه برعشة قلبها كلما لمسته، وكأنها تمسك بطوق نجاةٍ معلّق بمعجزةٍ مؤجّلة، تنتظر أن يفتح لها فجوة في جدار عزلتها، ويعيد إليها صوت الحياة.
ذات مساء، عادت بها الذاكرة إلى جارتهم القديمة، أم أحمد، المرأة الجريئة التي نجحت في إخراج أبنائها من العراق قبل أعوام. تساءلت عفراء: هل يمكن ليد تلك الجارة أن تمدّ إليها الآن خيط نجاة؟
انتظرت عودة صديقتها في زيارة جديدة إلى بيت أهل الزوج، وما إن سنحت الفرصة حتى توسّلت إليها أن تحصل لها على رقم هاتف أم أحمد، متذرعةً بأنّها امرأة وحيدة ومريضة بالسرطان وتحتاج للاطمئنان على أحوالها.
وبالفعل، نالت ما أرادت.
وحين أرخى الليل سدوله الثقيلة وغرق البيت في صمتٍ خانق، بدت الجدران وكأنها تنصت لأنفاس ساكنيها. كانت عفراء في غرفتها، تبحث عن ركن قصيّ بعيد عن سرير طفلتيها الغافيتين، كأنها تهرب من ضجيج العالم إلى عزلتها الخاصة. تأكدت من أن الباب قد أُغلق بإحكام، ثم التحفت البطانيات الثقيلة تغطي رأسها وجسدها، لا اتقاءً للبرد، بل خشية أن يتسرب صوتها المتهدّج إلى من يجاورها. كانت أشبه براهبة في صومعة معزولة، تحتمي بالصمت والظلام كي تُخفي ضعفها عن الأعين.
مدّت يدها المرتجفة نحو الهاتف، كأنها تستنجد بحبل نجاة أخير. ارتجف الجهاز بين أصابعها المرتعشة، قبل أن تفتح خطاً إلى الخارج، إلى ما وراء جدران وحدتها الثقيلة. وما إن جاءها الصوت المنتظر حتى بدا وكأنه نسمة رقيقة تهب في قلب إعصار:
ــ عفراء… كيف أنتِ يا حبيبتي؟ لقد حزنا لمصابك، وأعلم تمامًا ما تعانينه، فما غادرتِ فكري ولا فكر أبنائي يوماً.
توقفت أنفاسها لحظة، إذ انسكبت عليها نبرة أم أحمد دفئاً وحناناً، كأنها ماء بارد يطفئ لهيباً داخلياً أو كفّ رحيمة تمتد لتمسح دمعة خفية. في تلك الكلمات البسيطة، شعرت عفراء أن جدار وحدتها قد تصدّع، وأن الصمت الذي كان يطبق على روحها قد انفرج ليمنحها متنفساً.
لم تستطع عفراء أن تجيب؛ بكت بصمت، وخنقها نشيجها حتى عجز لسانها عن النطق. أدركت أم أحمد بحسّ الأم حجم ما يعتصر قلبها، فقالت مواسية:
ــ كل عقدة ولها حلّ يا ابنتي، فلا تيأسي. أنا هنا كأمك، بانتظار أن تبوحي لي بما يختلج روحك.
جاء صوت عفراء مبحوحًا متقطعًا كأنّه يتكسّر بين الضلوع:
ــ خلصيني يا خالة… إنّي أموت كل يوم ألف مرة.
التقطت أم أحمد المفهوم، وفهمت ما وراء الكلمات، فأجابتها بحزمٍ حنون:
ــ لا تخشي شيئًا، سأتدبّر الأمر قريبًا وأكتب لك بالتفصيل، لكن إيّاكِ أن تتساهلي في الحذر.
لأول مرة منذ زمن طويل، أحسّت عفراء بأنّ صدرها يتنفّس بحرية.
ضمّت طفلتيها الصغيرتين، وغمرتهما بذراعيها، فيما قلبها يتهدّج بارتعاشة أمل، أمل خافت لكنه حقيقي، قد يكون مفتاح النجاة من ليلها الطويل.
منذ تلك المكالمة الليلية، تبدّل قلب عفراء. لم يعد ينبض كما كان من قبل، بل صار كوترٍ مشدودٍ بين الخوف والرجاء.
كان صوت أم أحمد في أذنها كأنشودةٍ بعيدة، لحنٌ هادئ وسط ضجيج العاصفة، يبعث شيئًا من الطمأنينة في قلبٍ أنهكه الرعب.
كلماتها ــ “كل عقدة ولها حل” ــ ظلت تتردّد في روحها كترتيلةٍ صغيرة تعيدها إلى الحياة، وكأنها يدٌ خفيّة تمسح على جراح نازفة منذ زمن. كانت تلك الجملة وحدها كافية لتفتح كُوّة ضئيلة في جدار ليلها الطويل، كأنها تقول لها: لا بد أن للفجر موعدًا، مهما طال الليل.
بعد أيام، وصلت إليها رسالة قصيرة على هاتفها، كأنها شفرة نجاة.
“علينا أن نتحرّك بحذر. لا تتعجّلي. سأمدّ لكِ خيطًا واحدًا كل مرة، حتى تخرجي من هذا القبر… اصبري.”
قرأت عفراء الكلمات مرارًا حتى حفظتها، ثم خبأتها بين ثنايا قلبها، كأنها تعويذةٌ سحرية تحرسها من الانكسار. كان قلبها يتشبث بالحروف كما يتشبث الغريق بخشبةٍ في بحرٍ هائج.
بدأت ملامح الخطة تتضح شيئًا فشيئًا. طلبت أم أحمد منها أن تراقب البيت بدقة: مَن يزور، مَن يغادر، أوقات نوم العائلة، متى يخرجون إلى الأسواق، ومتى يسكن البيت تمامًا. عليها أن تحفظ كل ذلك عن ظهر قلب، فهذه التفاصيل الصغيرة هي مفاتيح الخلاص.
كانت الليالي تمرّ ثقيلة كالحديد. يجثم فوق صدرها خوفٌ لا يزول، يتناوب مع أملٍ هشّ كشمعةٍ في مهبّ الريح.
كانت كل مساء تجلس قرب ابنتيها النائمتين، تحدّق في وجهيهما الصغيرين، ثم تهمس في سرّها: “لن أترككما في هذا الجحيم ابدًا… سنخرج، مهما كان الثمن”. وكانت الدموع تهرب من عينيها، فتبتل وسادة الطفلتين وهما لا تشعران.
وفي ليلةٍ بعيدة، انساب إليها صوت أم أحمد عبر الهاتف، خافتًا لكنه واضحٌ كإشارةٍ لا تخطئها الأذن:
ــ “استعدّي. الليلة الثالثة من الأسبوع القادم ستكون فرصتك. سيأتي رجل أثق به، سينتظرك عند الباب الخلفي ساعة السحر. لا تحملي شيئًا سوى الطفلتين واوراق السفر. أيّ تردّدٍ سيُضيّع كل شيء.”
ارتجف قلبها كعصفورٍ في قفص ضيق. بين الخوف والرجاء وقفت حائرة: هل حقًا يمكنها أن تغادر؟ هل يُعقل أن تنجو من سطوة تلك العائلة، ومن أعين الجيران، ومن الجدران التي مثلت حولها سجنًا للطائفة والعار والقيود؟
الأيام التي تلت كانت أطول من عمرها. كانت تخطو في البيت مثل شبح، تحاول أن تخفي رجفة يديها وارتعاش عينيها، فلا يلحظ أحدٌ ما يضطرب في داخلها. كل صباح ينهشها القلق، وكل مساء يوقد فيها الأمل شرارةً صغيرة تكاد تخبو لكنها لا تنطفئ. كانت تحفظ خبر الهروب بين ضلوعها، وتخاطب به جدران غرفتها الصامتة، التي ابتلعت دموعها مثل قبرٍ بلا صدى.
وحين جاءت الليلة الموعودة، كان الليل ساكنًا على نحوٍ مريب، كأنه يتآمر معها أو عليها. السماء معلّقة فوق البيت مثل غطاءٍ من رماد، والريح تتسلّل عبر الشقوق نافخةً بردها في أركان الغرفة. أيقظت طفلتيها برفقٍ وهمسٍ مرتعش:
ــ “هس… حبيباتي، لا تُصدرن صوتًا، لا تخفن، نحن ذاهبات في رحلة معًا.”
عيون الطفلتين تفتحت مذعورة، لكنهما أطاعتاها، تمسكتا بثوبها كما لو كان حبل النجاة الأخير. حملتهما بين ذراعيها، تتقدّم بخطواتٍ حذرة نحو الباب الخلفي، حيث يبتلع الظلام المكان كعباءةٍ سوداء.
هناك، سمعت نحنحة رجلٍ تتردّد ثلاث مرّات، متباعدة كما وصفتها لها أم أحمد. شدّت على ابنتيها وفتحت الباب، فإذا برجلٍ غريب الملامح يقف في العتمة.
لم تعرفه من قبل، لكن في صوته كان شيءٌ من الصدقٍ، جعلها تطمئن للحظةٍ وسط ارتجافها. همس لها بسرعة:
ــ “أنا من طرف أم أحمد… أسرعي قبل أن يفيق أحد.”
خرجت عفراء وطفلتَاها خلفه، والخوف يطاردهنّ كظلٍّ لا يرحم.
كان البرد يضرب وجوههن، والريح تتلاعب بثيابهن، وأصوات الكلاب الضالة تتعالى في الأزقة، كأنها تنبح سرّهن المخفي. عبروا أزقّةً ضيّقة ملأتها روائح العفن والمجاري، وانعكست أضواء باهتة من مصابيح الشوارع على جدران حجرية متصدعة، فبدت كوجوهٍ قبيحة تترصدهم.
كل حركة في العتمة بدت كعينٍ تراقبهم. قلب عفراء يخفق بعنف، كأن صدرها لم يعد يسع نبضه. لكنها تماسكت، شدّت على يدَي ابنتيها، وهمست لنفسها“: “لن أعود… لن أُسلمهما لهذا الجحيم.”
طال الطريق حتى بدا كأنه قرن. خطواتهم المتسارعة تُحدث صدى مكتومًا على حجارة الأزقة، والليل يحبس أنفاسه معهم. وأخيرًا توقّف الرجل عند سيارة قديمة رابضة في الظل، كأنها تنتظرهم منذ دهر. فتح الباب الخلفي وأشار إليها:
ــ “اركبوا بسرعة.”
دخلت السيارة تحتضن طفلتيها بكل ما بقي من قوة في ذراعيها. ارتعش جسدها وهي تشعر لأول مرة أن الجدران التي طوّقتها سنين بدأت تتلاشى خلفها. كان صرير الإطارات على الطريق أشبه بصرخة تحرّر. لم تعد تسمع صخب البيت، ولا شتائم إخوة الزوج، ولا صرير أبوابهم المؤصدة. لم يبقَ سوى أنفاس ابنتيها الدافئة تختلط بدموعها، ورائحة الخوف تنسحب تدريجيًا من صدرها، تاركةً مكانها لارتجافة أملٍ جديد.
في تلك اللحظة، همس قلبها بصوتٍ مبحوح:
“لقد بدأنا طريق النجاة.”
(يتبع)
الفصل الأول: عفراء في مهبّ الطائفية