هيام علي الجاويش
اللوحة: الفنان الأميركي كلارنس أندروود
طرق صالح الباب، فقفز قلب فاتن قبل أن تتحرك قدمها. فتحت له، حياها، وتبادلا نظرات أربكتهما.
دخل مضطربًا ومشوشًا، لكنه كان سعيدًا بأنها كانت أول من وقعت عيناه عليها.
كان عمه وزوجته في صحن الدار، وساءهما حضوره بمفرده، ظنًّا منهما أنه جاء لإتمام إجراءات الزواج قبل سفره.
سأله عمه:
– أين أبويك؟
فرد قائلًا:
– لم أخبرهما بوجهتي، جئت لأودعكم قبل سفري.
دخلت فاتن إلى غرفتها تحاول السيطرة على دقات قلبها وارتجاف يديها. وقفت أمام المرآة ونظرت مليًّا، وكأنها تبحث عن نظراته.
لاحظت أن زهرة ياسمين مشاغبة قد سقطت على شعرها، عندما كانت تقطف أزهار الياسمين احتفاءً بالزائر المسافر، فتركتها.
همَّت بوضع عطرٍ خفيف هادئ، فربما داعبت أنفه تلك الرائحة.
عدلت عن رأيها، تركت علبة العطر، ونزعت الزهرة المتطفلة وكأنها حشرة.
عليها من الآن إخماد النيران المشتعلة، إن كانت من جانبه أو من جانبها.
تلك النيران لن تزيد إلا في تحويل قلبيهما إلى رماد، حيث لا مفر، ولا أمل مرجوٌّ في تغيير الأمر الواقع، إلا بموت واحد من الثلاثة.
فاتن تشبه أباها، سمراء دقيقة الملامح، ذات شعرٍ غجري كستنائي، تتمتع بشخصية واضحة المعالم.
وهي الأخت الصغرى لسمية.
وسمية المدللة، وسيمة كأمها، كانت بيضاء، ذات شعر منسدل وفاحم، وتشعر بجمالها الطاغي، وتفوقها بهذا على أختها.
لكن، بالرغم من جمالها، كان هناك شيء خفيٌّ تستشعره، ويفقدها الثقة بنفسها، ولا تستطيع قوله، وهو غيرتها من فاتن.
فقد لاحظت أن فاتن تضطرب عند رؤية صالح، وصالح تتهلل أساريره عند رؤية فاتن، ويبتسم ويتذكرها بينه وبين نفسه.
عندما كانوا صغارًا، كيف خلعت حذاءها، وانهالت به على رفيقه الذي كان يتشاجر معه، ودفعته بعيدًا، ثم قامت بضم سمية الخائفة.
كانت سمية تشعر ببرود مشاعره، وتكذب نفسها، وتقاوم غيرتها، لأنها كانت تعتقد أنها ستسافر معه بعد أن يتزوجا،
لكن بعد أن قرر السفر بمفرده، أصبحت متوترة وحانقة.
دخلت فاتن إلى المطبخ، وانشغلت بتزيين طبق الفواكه بزهر الياسمين، وكانت بين الفينة والأخرى تسترق النظر إليه من نافذة المطبخ.
بينما كانت أختها سمية منشغلة بإخراج قالب الحلوى من الفرن الملتهب، لا بيديها، إنما بعينيها المراقبة لفاتن، وبقلبها الذي يفوق حرارة الفرن.
وسألتها:
– ما رأيك بزينة الطبق؟ وضعت عليه زهر الياسمين، زينته قبل أن تأخذيه.
لم تستطع سمية أن تكبح نيران غيرتها، فصرخت غاضبة:
– وما شأنك؟ ومن طلب منك؟! عليك أن تفهمي أنه خطيبي أنا!
وتعمدت رفع صوتها ليسمع الجميع قولها.
هرعت الأم لاحتواء الموقف، سحبت فاتن من يدها وصفعتها صفعة مدوّية، وقالت همسًا مصرة على أسنانها:
– إن ترك أختك، فمن سيتزوجها؟! هيا إلى غرفتك!
أما هو، والذي كان يسترق النظرات إليها من نافذة المطبخ، فقد تيقن أنه لن يراها، وكان حرجه شديدًا،
لاعِنًا أباه وعمه وتلك التقاليد.
فما كان منه إلا أن نهض، وقال لعمه:
– يجب أن أغادر حتى أتمم إجراءات السفر، فأنا منذ زمن أسعى لفرصة العمل هذه.
وخرج، تاركًا قلبه عند فاتن، آخذًا قلبها عوضًا عنه.
صالح أحب فاتن بعمق، وهي رنَّت إليه بصمت، لأنها كانت تدرك أن هناك وعدًا بلفوريا اغتصب حقها في حبه من قبل ولادتها،
لأن أهله وأهلها عقدوا لأختها عليه منذ صغرهما.
فما كان منه إلا أن أدار ظهره، وسافر بحجة العمل، مصممًا ألا يعود مطلقًا.
لكن، تحت إلحاح أهلها، ألحَّ عليه أهله برسائل كثيرة تحمل نفس المضمون:
“كبرت ابنة عمك، اطلب يدها من أهلها بشكل رسمي برسالة، ونحن نتولى تجهيزها وإرسالها إليك.”
أرسل رسالة مقتضبة، مفادها:
– عمي، يشرفني أن أطلب يد ابنتكم.
فلعل القدر يُخطئ سهامه…
وما كان لقدر أن يُخطئ أبدًا.