قصتان: رجل مُخلِص.. وأخطائي القديمة

قصتان: رجل مُخلِص.. وأخطائي القديمة

اللوحة: الفنان الألماني إرنست لودفيج كيرشنر

وقد عُرِف عنه هذا، قلت له: أراك أكثر رجلٍ مخلصٍ في هذا الزمن.

قد بلغ إخلاصُه أنّه لم يستبدل فنجان قهوته طيلة سنوات كثيرة، على الرغم من أنه تحطّم قبل فترة بعيدة. فلملم بقاياه وذهب إلى مَن يُعيد بناءه من جديد، ولم يهتم بالشروخ التي ملأت جوانبه، كما لم يأنف أن يحتسي قهوته بفنجان تحطمت أذنه.

كما لم يغيّر من عاداته التي عُرف بها وعرفها الناس عنه؛ فلم ينحرف يومًا للسير في شارع رئيس، كما لم ينجرف بهوس لتشجيع فريقه الرياضي، رغم اعتياد هذا الأخير على الهزيمة.

لا زلت أذكر لقاء جمعني به وبعض الأصدقاء، تهكّم أستاذ جامعي على سيارته العتيقة، قوله: صديقك هذا رجل غني جدًا، فمن يحتفظ بسيارة قديمة تحتاج لإصلاح على مدار الساعة إلّا الأثرياء!

لم يعقّب الصديق، فقط مطّ شفتيه، رفع كتفيه لأعلى وصمت. قيل أيضًا إنه رافق عقارب ساعة يده القديمة ذات السوار الجلدي الكالح، فكان الاثنان يسيران جنبًا إلى جنب، لم يسبق أحدهما الآخر.

قد أسرَّ لي ذات مرة أنه أحبّ في مقتبل حياته فتاةً التقاها صدفة في يوم شتوي غائم؛ مرّت بجواره فخفق قلبه بعنف، ثم تعلّق بها بشدة، بينما هامت هي بغيره، غالت في إخلاصها وهاجرت.

أخطائي القديمة

يقول “دون كيشوت” وهو على فراش الموت: ظللتُ سنواتٍ أحارب طواحين الهواء، أُحذّر القوم من أشباح تسير بينهم. وعندما أيقنتُ أن زمن الفروسية قد ولّى، تقدّم بي العمر.

ولذلك انطلقتُ فجر أحد الأيام إلى أكبر طاحونة قديمة في البلدة، تلك التي تعطّلت تروسها من زمن بعيد. وقفتُ أسفلها، وحطّمتُ سيفي الخشبي، كسرتُ درعي، ثم ترجّلتُ عن حماري بعد أن خلعت ردائي. أعلنتُ القوم من جديد: أنّي قد تُبتُ عن أخطائي القديمة، وبرئتُ من وَهم اليقين.

ثم سعل “الدون” بشدة، اضطجع على جانبه الأيمن بعدما أنهى صلاة العشاء، نظر إليّ، رفع سبابته اليمنى في الهواء، تمتم قليلًا ثم أغمض عينيه.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.