اللوحة: الفنان الأميركي كلارنس أندروود
في كتاب «التغريبة البلالية»، يحكي بلال فضل: كان في مسرحٍ أمريكي، وبجانبه أرملةٌ أمريكيةٌ بدينةٌ تجاوزت الخمسين عامًا.
وبعد انتهاء العرض، وأثناء استعداد الجمهور للمغادرة، أعلن ميكروفون المسرح عن غلق الأبواب مؤقتًا، نظرًا لأن الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» سيحضر مسرحيةً في المبنى المجاور، وبسبب الإجراءات الأمنية طُلب من الجميع الانتظار حتى يدخل الرئيس.
تعالت الأصوات وتذمّر الحاضرون.
باحترافٍ وسرعة بديهة، خرج بطل المسرحية إلى خشبة المسرح وقال: «اليوم عيد ميلادي، وأريد الاحتفال! سيشاركني أبطال المسرحية بالوقوف إلى جانبي، وهديتهم لي أن يلبّوا أي طلبٍ أو سؤالٍ من الجمهور.»
ساد الحماس، وتلاشى الغضب. فقامت السيدة البدينة بحماسٍ طفولي وهي تنادي الشاب الوسيم بطل المسرحية: «أريد منك قُبلةً فرنسية طويلة!»
ضحك الجميع حين أشار إليها أن تتقدّم لتنال هديتها من شفتيه، فقفزت بخفةٍ لا تليق ببدانتها المفرطة، وفي ثوانٍ كانت أمامه على المسرح.
وبعد السماح بالخروج، كانت السيدة بجوار «بلال فضل»، فدار حديثٌ بينهما، ثم قالت له: «هل تعرف أنني ندمت على تقبيل هذا الوغد النحيل؟»
ظنّ بلال أنها تقصد زوجها الراحل الذي لم يُتقن القُبلات الفرنسية، لكنها تابعت قائلة: «لم أكن أعلم أنَّ الممثلين عندما يرقصون لساعتين تكون رائحة عرقهم كريهة إلى هذا الحد!»
أدركتُ حينها أن الواقع خلف الأضواء لا يشبه ما يُعرض على خشبة المسرح. فالجمهور الذي شاهد القُبلة واشتعل حسدًا عليها، لم يدرك أن صاحبتها كادت تُفرغ معدتها من الرائحة المقرفة!
***
تُذكّرني تلك الحادثة بما روته الفنانة «مريم فخر الدين» عن تجارب القُبل السينمائية، وكيف أنها لم تكن بتلك الرومانسية والأريحية التي يتخيلها المشاهد.
وضَرَبت مثالًا بالفنان عبد الحليم حافظ، إذ كان يعاني من مرحلةٍ متقدمة من مرض الكبد، وأن رائحة الدم التي تفوح من فمه كانت مزعجة إلى حدٍّ لا يُطاق، ثم عادت واعتذرت عن هذا التصريح المسجَّل.
سُئلت عن إحساسها عندما غنّى لها عبد الحليم «بتلوموني ليه»، فقالت: «كنت أفكر: هطبخ إيه لجوزي!»
تلك الصراحة تكشف أنه بينما كان ملايين المشاهدين مندمجين في الأغنية العاطفية، كانت الفنانة بأفكارها في مكانٍ آخر. وهذه المفارقة البسيطة تختصر كثيرًا من مظاهر الحياة التي تَخدعنا بسطحها وتُخفي باطنها.
***
هناك مفارقة أخرى: نجوم السينما الذين يُعتبرون فتى وفتاة أحلام الجماهير، حين يتزوّجون يظنّ الناس أن الجمال اقترن بالوسامة، وأن الحلم اكتمل.
لكن لا تمرّ شهور حتى تتصدر أخبار الطلاق الصفحات، ويتسرّب من الطرفين كلامٌ يصدم الجمهور: عن العصبية، والأنانية، والغرور، وعدم تحمّل المسؤولية، وربما ما هو أفدح.
وحين يتبادلان الاتهامات، يكتشف الناس أن هؤلاء النجوم بشر، ليسوا كما تخيّلوهم على الشاشة.
ولهذا يُقال بين الفنانين إن زواجهم من بعضهم لا يدوم — فكيف يكونون حلم الشباب من الجنسين، وهم لا يحتملون بعضهم في الواقع؟
***
وإذا كانت السينما قد صنعت أوهامها على الشاشة الكبيرة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي أعادت إنتاجها على شاشةٍ أصغر، لكنها أكثر تأثيرًا.
ففي وسائل التواصل الاجتماعي، يقوم الجميع بنشر بوستاتٍ وكلماتٍ ومواعظٍ ومواقف لا تخرج في أغلبها عن مظهر «القُبلة الفرنسية»؛ تتجمّل أمام شاشة «فيسبوك»، وما وراء الشاشة قد لا يختلف كثيرًا عن طعم القبلة التي تجرّعتها الأرملة. ولهذا فوسائل التواصل تحتاج يقظةً حتى لا تؤثر على مزاج الناس وتغرّهم وتغويهم.
***
في فيلم «حب في الزنزانة» ظهرت شخصيةٌ ثانويةٌ بالسجن، جسدها الفنان «محمد أحمد المصري» الشهير بلقب «أبو لمعة». حين قال لزميله في السجن وهو يبتسم برضا غريب: «بيأكلونا هنا ببلاش، ده العيش لوحده يشبع، وبيعالجونا ببلاش، وجايبين أخصائي اجتماعي بيحل مشاكلنا، وعاملين سور حوالين السجن وواضعين حراس علشان ما حدش من بره يخش علينا يزعجنا، يا أخي احمد ربنا، ده إحنا في نعمة! شايف النعمة؟ شايف العيش؟»
فرد عليه زميله قائلًا: «بس فيه حاجات أهم من العيش.»
فقال «أبو لمعة» بثقة: «طبعًا… اللحمة!»
هذا المشهد شديد البراعة، ويحمل جانبًا نفسيًا عميقًا من خداع الذات؛ فهو تصويرٌ ساخر لإنسانٍ يتكيف مع قبح الواقع حتى يراه جميلاً، ويستمتع بالقيود لأنها تمنحه وهم الأمان، فينقلب الظلم إلى راحة، والسجن إلى «نعمة»، فتنطفئ الرغبة في التغيير، ويُدفن الطموح تحت غطاء الرضا الزائف.
تذكّرني شخصية «أبو لمعة» بظاهرةٍ نراها كثيرًا في حياتنا اليومية، حين يبرر البعض فقره أو فشله بعبارات مثل: «الحمد لله، غيري أسوأ»، أو «الراحة مش في الفلوس». فيتحول الرضا من فضيلةٍ إلى تخدير، ومن طاقة هدوءٍ إلى وسيلة هروب. فبدل أن يكون القبول بالواقع خطوةً نحو إصلاحه، يصبح جدارًا يمنع التغيير.
هذا النوع من الرضا الزائف يشبه السجين الذي يمدح جدران زنزانته، لا لأنه يحبها، بل لأنه نسي أن هناك حياةً خارجها.
إن التوازن الحقيقي هو أن نرى الأشياء كما هي؛ لا نُجمل القبح بالكلمات، ولا نُسوده باليأس،
بل نفهمه كما هو، ونسعى لتغييره إن كان قبيحًا. بهذا فقط نتحرر من «سجن الوهم» الذي نصنعه بأنفسنا، ونعيد تعريف النعمة على حقيقتها.
***
في مذكرات نوبار باشا، حكى أن «إبراهيم باشا» ابن «محمد علي»، الذي صال وجال بجنوده في الجزيرة العربية لمحاربة الوهابيين، وفي اليونان فأخمد ثورتها، وفي بلاد الشام حتى وصل إلى قرب أسوار القسطنطينية، كان لا ينام الليل، وكان نومه متقطعًا، ويرسل في طلب نوبار.
وسأل يومًا العبدَ الحبشيَّ الذي يسهر معهم: «هل يستمر هذا الوضع زمنًا طويلًا؟»
فقال: «نعم، إن الرجال الذين قتلهم يجيئون لإيقاظه من نومه ليلًا.»
وكان إبراهيم يعيش في رعبٍ من أبيه، فيخشى أن يأمر بقتله.
في هذا المشهد فقط، كان الفارس والأمير — الذي كان حديث الدنيا — يعاني الأرق، وتأتيه كوابيس من قتلهم، ويمتلئ بالهموم خوفًا من أبيه حاكم مصر.
فلو علم من يحسدونه هذه الحياة الثقيلة، هل يتمنون أن ينالوا مثل حظّه كاملًا، أم يحمدون الله على السلامة؟
ومن دروس الحاضر: من يتمنى أن يكون في موقف «بشار الأسد»، الذي كان شعار حزبه «بشار إلى الأبد»؟
هل تبقّى من آثار متعةٍ لمن كانت نهايته هروبًا وزوال ملك؟
إن الملك الذي تسبب في نهاياتٍ مأسوية، هو بريق المجد والتجمّل الذي يبهر الناس فيحسدونهم، ويغفلون عن حقيقة قصتهم الكاملة.
***
«ولأن هذا الخداع لا يقتصر على الفن، بل يمتد إلى التاريخ نفسه، يحكي صديقي الذي أصفه دائمًا بالحكيم، أنه حين يبهره جمال نجمات السينما، كان يرتد بخياله إلى زوجته، ويتخيلها وقد أصابها سهم الحظ فأصبحت نجمةً سينمائية نالت بريق الأضواء وأدوات التجميل، فتصبح محط أنظار الشباب.
ثم يفيق من خياله سريعًا، فلا يجد ميزةً لا تتحلّى بها زوجته.
وينطبق الأمر على نجوم السينما الرجال، فكل ما يُسلَّط عليهم من أضواء ليس إلا مظهرًا زائفًا — كقُبلةٍ فرنسيةٍ تخفي وراءها رائحة العرق.
***
قد تبتسم المتعة وهي تُخفي الألم، وتتلألأ السعادة وفي عمقها الشقاء، وتنتفخ الهيبة وهي تستر الهزيمة.
إنها مظاهر، لا حقائق.
السعداء نادرون.
وكثيرًا ما دار بيني وبين أصدقائي نقاشٌ حول «المحظوظين» الذين وُلدوا وفي أفواههم ملعقةٌ من ذهب، وكأنها جواز المرور إلى السعادة.
لكن الحقيقة أن السعادة لا تأتي من الذهب، بل من القلب. فالقلب هو المصدر، سواء أمسك صاحبه ملعقةً من ذهب، أم أكل بأصابعه.
«الحياة الزوجية ليست قُبلةً فرنسية، بل قد تتخللها قبلاتٌ من كل صنف، وتبقى جميعها ألوانًا في لوحة الحياة الكاملة.»
تبقى «القُبلة الفرنسية» — مثل كثيرٍ من مظاهر الحياة — مشهدًا براقًا على الخشبة، يخفي وراءه حقيقةً لا تُرى.
