تعدد الرؤيا في تأويل النص الشعري

تعدد الرؤيا في تأويل النص الشعري

صالح مهدي محمد

اللوحة: الفنان الجزائري صالح المقبض

لم يكن الشعر، في جوهره، خطابا مغلقا، بل تركيبا مختلفا عن باقي الآداب والفنون، إذ يعد فضاء مفتوحا للرؤيا، يمكن لكل قارئ أن يفهمه بطريقته، ولكل ناقد أن يقيم فيه رؤيته.

من هنا تتكاثر القراءات كما تتكاثر الرؤى حول نص واحد، فيتحول النص الشعري إلى أكثر من احتمال، وتتحول القصيدة إلى كائن يتغير بتغير من ينظر إليها.

إن تعدد الرؤيا في النص الشعري لا ينبع من ترف فكري أو رغبة في الاختلاف فحسب، بل من طبيعة الشعر نفسه، الذي لا يكتمل في ذاته إلا حين يُقرأ.

فالقارئ ليس متلقيًا سلبيًا، بل شريكا في إنتاج المعنى، يحمل إلى النص خلفيته الثقافية وتجاربه ومزاجه وأحلامه ومخاوفه، فيقرأ ما يريد أن يرى، ويؤول ما يعجز عن تسميته.

وهنا يبدأ التباين بين قارئ وآخر: فالقارئ الذي ينتمي إلى ثقافة تميل إلى الرمزية سيقرأ القصيدة بمنظار الإشارة، بينما القارئ الواقعي سيبحث فيها عن حكاية خفية أو صوت داخلي.

أما القارئ المتصوف فسيقرأها وصفا لإشراق روحي، والقارئ النفسي وصفا لبَوْح داخلي أو انكسار للذات في مواجهة اللاوعي. وهكذا يصبح النص الشعري قابلا للولادة من جديد بعدد من يقرؤونه.

أما الناقد، فيختلف عن القارئ العادي لا لأنه أعمق فهما فحسب، بل لأنه يحمل منهجا أو رؤية نظرية تحدد زاوية النظر. فكل ناقد، حين يقترب من النص، يصطحب معه خلفيته المنهجية: فالبنيوي ينقب في البنية واللغة، والتفكيكي يزعزع المعنى ويشكك في استقراره، والتأويلي يبحث عن أفق التلاقي بين النص والقارئ، بينما التاريخي يقرأ القصيدة في سياقها الزمني والاجتماعي.

هذه المناهج لا تفسد النص بل تثريه، لأنها تجعلنا نرى فيه طبقات جديدة من الدلالة.

ومع ذلك، فإن التعدد لا يعني الفوضى، بل يعني أن النص الشعري يحتمل أكثر من وجه للحقيقة، وأن كل قراءة هي وجه جزئي لتلك الحقيقة التي لا تُدرك كاملة.

ومن الأسباب العميقة لهذا التعدد أن الشعر، بطبيعته، لغة مجازية لا تُحاكم بمنطق العقل، بل تُفهم بالإيحاء والحدس، وأنه يقوم على الغياب أكثر مما يقوم على الحضور، على ما لا يُقال بقدر ما يُقال، مما يجعل المعنى يتنفس في المسافة بين الكلمة وتأويلها.

كما أن اختلاف الأزمنة والمقاربات الفكرية يضيف بعدا آخر؛ فما يُقرأ في زمن بوصفه تعبيرا عن الحنين قد يُقرأ في زمن آخر بوصفه احتجاجا أو حلما بالمطلق. لذلك، فإن النص الشعري، كلما تقدم به الزمن، ازداد شبابا، لأنه يعيد تشكيل نفسه وفق وعي المتلقي الجديد.

وقد يكون سر هذا كله في أن الشعر، قبل أن يكون كلمات، هو تجربة إنسانية عميقة تتشكل داخل الذات وتتحول إلى طاقة لغوية مفتوحة، ومن ثم لا يمكن حصرها في معنى واحد أو سياق واحد.

إن تعدد الرؤيا في التأويل هو الدليل على حيوية النص، وعلى أن الشعر لا يعيش في المعنى الثابت، بل في الحركة الدائمة بين المعاني، حيث تلتقي الذات بالآخر في مساحة من الالتباس الخلاق.

وهكذا يظل النص الشعري، في كل قراءة جديدة، يعيد تعريف نفسه، ويثبت أنه لا ينتمي إلى زمن كتابته بقدر ما ينتمي إلى زمن قراءته، وأن تأويله ليس كشفا عن جوهره فحسب، بل عن القارئ ذاته، عما يرى، وعما يفتقد أن يرى.

رأي واحد على “تعدد الرؤيا في تأويل النص الشعري

  1. نصٌ ثريّ جدًّا.
    يفيد القاريء والناقد والشاعر واامتلقي..
    على حد سواء.
    بوركتم وعوفيّتم.

    إعجاب

اترك تعليقًا على shahrbanmoadi إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.