النقد الأدبي الملزِم وأبعاد الرؤيا

النقد الأدبي الملزِم وأبعاد الرؤيا

صالح مهدي محمد

اللوحة: الفنان السوري بشير بشير

منذ أن بدأ الإنسان يعبّر عن نفسه عبر اللغة، وُلد النقد بوصفه العين الثانية للنص، أو قُل: الرأي الموازي الذي يكشف ما يراوغ، ويُضيء ما يغيب، ويوازن بين ما يُقال وما يُقصَد، وبين ما يظهر وما يتوارى تحت طبقات الكتابة. والسؤال الذي ظلّ يتردّد بصيغٍ مختلفة عبر العصور هو: عمّ يبحث النقد في النص الأدبي؟ وما الذي يجعل رأيًا نقديًا ما «ملزِمًا» أو ذا وزن، رغم أنّ النقد، في جوهره، لا يتجاوز كونه وجهة نظر؟

فالنقد ليس مرآة تُعيد الصورة كما هي، بل هو رؤية تحاول تفكيك الصورة لإعادة تركيبها ضمن شبكة من الدلالات والمرجعيات والتجارب الجمالية. وهو لا يعلن الحقيقة ولا يحتكرها، بل يواصل البحث عنها، بطريقة لا تنفي تعدّدها ولا تمنح أحدًا امتياز امتلاكها. ومع ذلك، يبقى للنقد – في لحظات معينة – قوة إلزام، لا بمعنى السلطة، بل بمعنى الإقناع القائم على المعرفة، والدراية، والقراءة العميقة.

وحين نقترب من النص الأدبي، سواء أكان قصيدة أم قصة قصيرة أم رواية أم نصًا مسرحيًا، فإن النقد لا يبحث عن «الصواب» ولا «الخطأ» كما يُفهمان في العلوم، بل يبحث عن الفعل الجمالي، عن المكوّن اللغوي وكيف يتحوّل إلى دلالة، وعن البناء السردي وكيف يصير بنية ونسقًا ورؤية. النقد يبحث عن «الكيف» قبل «الكم»، وعن «الجودة» قبل «الانتشار»، وعن «الوعي» قبل «التأثير». لذلك لا يمكن تحديد دوريّه بحدود واحدة، لأن النص الأدبي نفسه كائنٌ متحوّل، يرث تقاليد ويبتكر أخرى، فيجبر الناقد على إعادة النظر في أدواته مع كل قراءة جديدة.

في الشعر، مثلًا، لا يبحث النقد عن الوزن وحده، ولا الموسيقى وحدها، ولا الصورة وحدها، بل يبحث في كيفية تشابك هذه العناصر – أو تفكّكها – لتشكيل خطاب شعري متفرّد. يسأل: كيف يتحرّك المعنى بين الكلمات؟ ما طبيعة العلاقة بين الإيقاع والدلالة؟ ما حدود الصورة وآفاقها؟ كيف بُني الصوت الشعري؟ وكيف تتحوّل اللغة مرّة إلى أداة ومرّة إلى عالم كامل؟ ثم يفحص ما إذا كان النص قادرًا على ابتكار منطقه الداخلي، أي «شعريّته» التي تميّزه.

وفي القصة القصيرة، يبحث النقد عن تكثيف اللحظة، عن الانزياح الذي يحوّل الحدث العادي إلى لحظة دلالية، عن إدارة الصمت، وعن الاقتصاد اللغوي، وعن المشهدية المتدفقة التي تُبنى غالبًا على توتّر داخلي واحد. أمّا الرواية، فهي فضاء مفتوح للزمن والشخصيات والبنية الاجتماعية والرؤيا الوجودية التي تتسرّب عبر المتخيّل. وهنا يصبح النقد بحثًا في بنية العالم الروائي: كيف يظهر الزمن؟ كيف تتحرّك الشخصيات؟ ما طبيعة الفضاء الروائي؟ ما العلاقة بين الواقع والتخييل؟ وما حدود التخييل ذاته؟ فالرواية، بما هي عالم، تحتاج إلى نقد يقرأ علاقاتها الداخلية لا لغتها فقط.

وعندما نصل إلى المسرح، يدخل النقد منطقة أكثر تركيبًا: لغة، جسد، صورة، حركة، موسيقى، فضاء بصري، خطاب، وانعكاس اجتماعي مباشر. ففي المسرح يكون النص جزءًا من العمل، بينما تعد الرؤية الإخراجية امتدادًا له لا انفصالًا عنه. لذلك يبحث نقد المسرح في «التحقّق»: كيف يتحوّل النص إلى فعل مرئي؟ كيف يعمل الجسد داخل المعنى؟ ما العلاقة بين القول والفعل؟ وكيف تُستثمر الخشبة مسرحًا للدلالة؟ وهنا يصبح الرأي النقدي ملزِمًا حين يقرأ العمل بوصفه كُلًّا متكاملًا، ويكشف قوّته وضعفه من زاوية إبداعية لا تعسّفية.

يبقى السؤال: متى يصبح الرأي الأدبي «ملزِمًا»؟ ومتى يغادر النقد كونه وجهة نظر ليغدو رؤية ذات سلطة معرفية وجمالية؟

الإلزام هنا لا يعني الفرض، بل يعني أن الرأي النقدي يصبح «مرجعًا» حين يستند إلى أدوات واضحة، وقراءة منهجية، ومعرفة بتاريخ الأدب وتحولاته. يصبح ملزِمًا حين لا يفرض على النص تأويلًا جاهزًا، بل يستخرج تأويله من داخله. يصبح ملزِمًا حين يقرأ العمل لا الكاتب، ويمنح النص حقّه الكامل، ويقف على مسافة متوازنة بين التلقي والإبداع. ويغدو ملزِمًا حين يضيء مناطق لم تُكتشف من قبل، وربما لم ينتبه إليها كاتب النص نفسه.

وفي اللحظة التي يدرك فيها الناقد أن وظيفته ليست إصدار الأحكام بل قراءة العوالم، يزداد رأيه وزنًا. فالرأي الأدبي لا يستمد جديّته من صرامة اللغة، بل من القدرة على الفهم. الناقد الذي يقرأ العمل في سياقه الثقافي والتاريخي والجمالي يختلف عن ناقد يستند إلى ذائقته فقط. الأول يقدّم معرفة، والثاني يقدّم رأيًا. ومن هنا تتولّد «الإلزامية» النقدية: من انضباط المعرفة لا من ادعاء السلطة.

وإذا كان النص الأدبي محاولة للكشف عن الإنسان والعالم، فإن النقد محاولة للكشف عن النص ذاته. كل نص يحمل رؤيا ما، وكل نقد يحاول سبر هذه الرؤيا وفكّ طبقاتها. ليست وظيفة النقد تعليم المبدع كيف يكتب، بل فتح آفاق جديدة يرى من خلالها ما لم يكن يراه. وهذه هي جوهر العلاقة بين النص والناقد: علاقة تكامل لا صراع، علاقة كشف لا إخفاء. فكل قراءة نقدية جادّة توسّع النص ولا تضيقّه.

ومهما بلغ النقد من العمق، فهو يظل فعلًا إنسانيًا مؤسسًا على القراءة، ومن هنا يصبح الاختلاف جزءًا من طبيعته. فالرأي النقدي الملزِم لا يلغي الآراء الأخرى، بل يفتح باب الحوار معها. كل رأي يضيف، لا ينفي. والنص الأدبي لا يتكامل من قراءة واحدة، بل يتجدّد بتعدد قرائه. لذلك ليست وظيفة الناقد قول: «هكذا يجب أن يُفهم النص»، بل: «هكذا يمكن أن يُفهم». وما إن يتحقّق هذا الفهم القادر على الإقناع وكشف الطبقات العميقة للمعنى، حتى يصبح الرأي النقدي جزءًا من تاريخ النص نفسه.

إن النقد يبحث، في جميع الأجناس الأدبية، عن جوهر واحد: الرؤيا. هل يحمل النص رؤيا؟ هل يقدّم إضافة؟ هل يخلق حساسية جديدة؟ هل يفتح بابًا إلى معنى آخر؟ هل يبتكر لغته الخاصة؟ فإذا امتلك النص رؤيته، امتلك النقد مبرّره. وإذا امتلك النقد رؤيته، امتلك وزنه. وبين رؤيا النص ورؤيا النقد تكون ما يمكن تسميته بـ«الرأي الأدبي الملزِم»، رأي لا يفرض ذاته على النص، بل يمنحه صوتًا إضافيًا، ويعمّق وعي القارئ والعالم، ويعيد صياغة العلاقة بين الإبداع ومعناه.

رأي واحد على “النقد الأدبي الملزِم وأبعاد الرؤيا

  1. شكرًا على هذه المعلومات القيّمة.
    والرؤيا الناضجة، والموضوعيّة في البحث.

    إعجاب

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.