اللوحة: الفنان الهولندي فنسنت فان خوخ
ماهر باكير دلاش

عالمٌ خفيّ يكشف حكمة الخالق ودهشة الخلق
فِي حُكْمِ غُرْبَانٍ سُودٍ سَمَا الْعَدْلُ
وَتَجَلّى سِرٌّ فِي الْخَلائِقِ يُكْتَمَلُ
في عالمٍ يزدحم بالأسرار التي تخفيها الكائنات من حولنا، يقف الغراب مخلوقًا غامضًا يثير الدهشة كلّما دُرِس بعمق. فهذه الطيور التي اعتاد الإنسان رؤيتها في أطراف الحقول، وعلى أغصان الأشجار الجافّة، تحمل في داخلها عالمًا اجتماعيًا شديد التعقيد، يكاد يقترب من ملامح المجتمعات البشرية، لا من حيث الشكل الظاهر، بل من حيث القوانين، والسلوك، وقدرتها على التعلّم واتخاذ القرار. ومع التقدّم العلمي، لم يعد من الممكن النظر إلى الغربان على أنها مجرد طيور سوداء ذات صياح مزعج، بل باتت مثالًا مذهلًا على ذكاء الحيوان وتنظيمه، حتى أنّ علماء السلوك الحيواني عدّوا بعض تصرفاتها ضربًا من العبقريّة الفطريّة التي أودعها الله فيها.
وحين يتأمل المرء هذا التعقيد في مجتمع يبدو بسيطًا من بعيد، تنفتح أمامه دلالات قرآنية عميقة؛ فالله تعالى يقول: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾. وهذه الآية، التي قد يمرّ الناس عليها مرورًا سريعًا، تجد تفسيرها الحي أمامك حين ترى الغراب يخطط، ويتعاون، ويعاقب، ويُربّي أفراد سربه كما تفعل الأمم المنظمة. وكأن هذه الكائنات تخاطب الإنسان بلسان حالها: إننا لسنا فوضى؛ نحن أمم كذلك، لنا نظامنا وطبائعنا، فتعلموا منّا قبل أن تنظروا إلينا باستعلاء.
حين يموت غراب، لا يُرفع رأس أي من أقرانه إلى السماء حزناً كما تفعل الفيلة التي تقيم طقوس الوداع وتلامس عظام موتاها. الغربان تتصرف بطريقة مختلفة تمامًا: يجتمع حول الجثة عددٌ من أفراد السرب، يشاهدونها من زوايا مختلفة، يحللون الوضع، ويتفقدون المكان بدقّة، لا لأن الموت يحزنهم بشكل عاطفي، بل لأنهم يريدون أن يعرفوا لماذا مات صاحبهم، وما الخطر الذي قد يهددهم لاحقًا. هذا السلوك الذي رآه العلماء مرارًا وصفوه بأنّه “تحقيق ميداني” حقيقي، حيث يتعامل الغراب مع موت رفيقه كما يتعامل المحقق مع مسرح الجريمة، مراقبةً، وتقديرًا للمخاطر، ودراسةً لطبيعة التهديد الذي قد يكون الإنسان، أو حيوانًا مفترسًا، أو حتى سمًّا أو فخًا.
وما يفعله الغراب هنا يكشف عن بُعد إيماني مبهر في خلق الله؛ إذ يبدو وكأن الطائر يستجيب للفطرة التي غرسها الخالق فيه لصيانة بقائه. فإذا كان الإنسان المكلّف بالعقل قد يهمل الأخذ بالأسباب، فها هو الغراب—الذي لا يقرأ ولا يكتب—يُعلّم الإنسان أن الأخذ بالأسباب جزء من سُنن الحياة التي أودعها الله في الكون. بل إن بعض العلماء رأى أن هذا التحقيق الذي يقوم به الغراب يشبه مفهوم “الاعتبار” الذي دعا إليه القرآن حين قال تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾، وكأن الطائر يقول: إن موت واحدٍ منّا ليس حدثًا عابرًا، بل درسٌ ينبغي أن يُقرأ كي لا يتكرر الخطر.
لكن المشهد لا يتوقف عند مجرد التحقيق. في عالم الغربان نظام مجتمعي متراصّ، له قوانينه وأحكامه، وفيه ما يشبه “المحاكمات” التي تُعقد عند وقوع مخالفة، فقد سُجِّلت في الأبحاث العلمية سلوكيات جماعية تشير إلى تدرّج وظيفي داخل السرب، وإلى وجود حالات حقيقية للعقاب الاجتماعي. وإذا ارتكب غراب ما يُعد “جريمة” في عالم الغربان، فإنه يُحاسب أمام الآخرين حسابًا صارمًا، لا يختلف في جوهره عن العقاب الذي تمارسه المجتمعات البشرية على من يخالف قوانينها.
وهنا تتجلّى حكمة إلهية أخرى؛ فالله تعالى خلق الكائنات كلها على نظام متوازن. وما هذه السلوكيات إلا دليل على أن الأخلاق ليست حكرًا على الإنسان وحده من حيث المبدأ، بل إن الله فطر حتى الحيوانات على نوع من “الميزان الداخلي” الذي يحفظ الجماعة ويمنع الفوضى. وإذا كان القرآن يقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، فإن من أعظم ما يميز هذا التقويم القدرة على التعلم من الآيات الكونية. وما الغربان إلا آية أخرى من آيات الله التي تدعو الإنسان ليرى كيف يُقام العدل حتى في عالم الطير، دون تشريعات مكتوبة أو قضاة رسميين.
من بين السلوكيات المرصودة، أن الغراب الذي يعتدي على طعام الفراخ الصغيرة—وهي جريمة بالغة الخطورة في عالم الطيور—يتم القبض عليه داخل دائرة من غربان أخرى، ثم يُنتف ريشه بالكامل، ليصبح غير قادر على الطيران، وكأنه يُعاد إلى حالة الضعف التي يعيشها الفرخ الصغير حين لا يملك بعد القدرة على حماية نفسه. فهذا العقاب ليس مجرد انتقام، بل رسالة تربويّة اجتماعية تجعل المخطئ يتذوّق عجز من ظلمهم.
أما الغراب الذي يهدم عشًا لغيره، سواء بقصد سرقة مواده أو للإضرار بصاحبه، فإن “المحكمة” تلزمه بإعادة البناء، حجرًا فوق حجر، وعودًا فوق عود. هذه العقوبة تحمل في جوهرها فهمًا بديعًا لفكرة المسؤولية والإصلاح، وكأن الغربان تعيد تربية أفرادها على احترام ممتلكات الآخرين، وعلى أن التدمير لا يُواجه إلا بالإصلاح، وأن كل من يعتدي على بيت غيره سيتحول يومًا إلى عامل بناء مُكرَه على ترميم ما هدمته يداه.
وأمّا أخطر الجرائم في عالم الغربان فهي الاعتداء على أنثى غراب آخر، وهذا الفعل في منظومتهم يستوجب عقوبة قاسية تصل إلى الضرب بالمناقير حتى الموت. يبدو الأمر صادمًا للوهلة الأولى، لكنه يكشف عن أن الغربان، رغم كونها مخلوقات غير ناطقة، تحمل حسًّا عميقًا بالانضباط الأخلاقي الذي يحفظ استمرار مجتمعها من الفوضى. فالسرب يدرك أن أي اعتداء على روابط التزاوج سيؤدي إلى صراعات مميتة، وإلى فوضى نسب وتشتت السرب، لذلك تُطبق العقوبة بأقصى درجات الحزم.
جلسات محاكم الغربان تُعقد غالبًا في أرضٍ واسعة مكشوفة، تتجمع فيها الغربان في وقت محدد، ويجري خلالها تقديم “المتهم” وسط دائرة من أفراد السرب الذين يمنعونه من الهرب. تُسمع أصوات مختلفة، وصرخات لها أنماط محددة، يفسرها الباحثون على أنها إشارات للتجميع أو التحذير أو التعبير عن الغضب. وعندما يصدر الحكم، ينفّذ فورًا، فيحدث التنكيل أو القصاص أو إجبار الجاني على الإصلاح، بينما يقف بقية السرب يشاهد، وكأن في الأمر درسًا اجتماعيًا عامًا يُغرس في ذاكرة كل غراب صغير قد يشهد الموقف لأول مرة.
وكلما ازداد الإنسان تأملًا، وجد أن في هذه السلوكيات درسًا إيمانيًا هائلًا يذكّره بأن الكون كله يسير بميزانٍ دقيق. فإذا كان الله قد علّم الغراب أن يدفن، ويعاقب، ويصلح، ويحتاط للمستقبل، فكيف يليق بالإنسان أن يُهمل دور العقل الذي كرّمه الله به؟ وكيف لا يرى في مخلوقات الله آياتٍ توجّهه نحو الحكمة؟ إن من يقرأ سلوك الغربان بهذا العمق يدرك معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾. فالآيات ليست في السماء وحدها، بل في الطيور التي تمر أمام أعيننا كل يوم دون أن نمنحها حق التدبر.
تثير هذه السلوكيات تساؤلًا جوهريًا حول مصدر هذا التنظيم: من أين جاء الغراب بكل هذا الوعي؟ كيف عرف أن للمجتمع قوانين يجب أن تُحترم؟ كيف تعلم البحث والتحقيق؟ وكيف فُطِر على بناء ذلك النظام الأخلاقي الصارم الذي يعجز عنه بعض البشر؟ والجواب الذي يجدّد الإيمان هو نفسه الجواب الذي يتردد في كل مظاهر الإعجاز الكوني: أن الله هو الذي علّم، وهو الذي أودع في كل مخلوق من غرائزه ما يحفظ به نوعه وبقاءه وتوازنه في هذا العالم.
فالغراب الذي علّم ابنَي آدم كيف يدفن أحدهما الآخر، كان ولا يزال رمزًا للدهاء والفطنة، وكأن الرسالة الإلهية منذ البداية واضحة: ليس حجم المخلوق ولا صوته ولا لونه هو ما يحدد مكانته في ميزان الحكمة الإلهية، بل ما أودعه الله فيه من قدرة على التنظيم والتعايش والبقاء.
إن عالم الغربان نموذج صغير لعظمة الخلق. وكلما تقدم العلم خطوة، انكشف للإنسان شيء جديد من هذا العالم المدهش. ومهما درس الباحثون سلوك الغربان، ستظل هناك أسرار لم تُكتشف بعد، لأن في كل مخلوقٍ خارطةً خفيّة من العلم والفطرة لا يعرفها إلا من خلق وسوّى.
مِنْها الدُّرُوسُ لِمَنْ أَرَادَ بَصِيرَةً
فَالْكَوْنُ مَدْرَسَةٌ، وَذَلِكَ لَنَا مَثَلُ
صديقنا المبدع ماهر باكير دلاش
أولا: سبحان الله في خلقه.
ثانيا: التحية والشكر لك على هذا التحليل الرائع
والموضوع الهام وبعد…
لماذا هذه الكلمة:
قبل فترة قصيرة صدرت قصتي “يبت العصفور”
من مطلع القصة للنهاية (الغراب- الغربان) ابطال القصة.
صدرت بالعربية وغيرها وأتمنى هنا المساعدة لمواصلة
الترجمة للغات عالمية.
كنا معا في الروافد وهنا وغيرها واتمنى مواصلة الصداقة.
إعجابإعجاب