اللوحة: الفنان النمساوي ايغون شييل
سعاد الراعي

الجزء الأول من الفصل الثامن من رواية تحت الطبع للكاتبة سعاد الراعي
- أوراق الحرز (1)
كان شتاء البلاد، يوم عادت إيفا إليها، يتلألأ بضياء الأعياد، كأن الفجر قد نثر على السقوف نثاراً من فضّة باردة، والشوارع نفسها تستيقظ على أناشيد خفيّة تُعلي من شأن الطمأنينة. أضواء الميلاد كانت تومض بهدوء يشبه نبض مدينة آمنة لا يعرف قلبها الارتجاف، فتغمر كلّ مارٍ بإحساس مريح بأن العالم، ولو لوهلة، مكان يمكن الوثوق برحمته.
غير أن هذا السكون البهيّ كان يوقظ في أعماق إيفا شروخاً غير مرئية، ذكريات تنسلّ إليها مثل ظلّ طويل خلفها.
فهناك،
في بلد آخر،
على الضفّة التي تركتها وراء ظهرها، كان الناس يواجهون ليالٍ لا تُضاء بأي عيد، وأياماً تتشظّى فيها الأرواح تحت وطأة حربٍ لا يعرف أحد علامَ تُقاتل ومن أجل مَن تُسفك الدماء.
تذكّرت وجوهاً انطفأت ملامحها تحت رماد القصف، وأمّهات يرتجفن من كل دويّ، وأصدقاء لم يعد لهم وطن سوى صورة في جيب أو قبرٍ بلا اسم.
كانت تفكّر في أولئك الذين خسروا كل ما هو عزيز دون أن يُمنحوا شرف اختيار التضحية، بل زُجّ بهم في نزاعات تحرّكها شهية لا تشبع من الأطماع.
حين وطأت عتبة بيتها، بدا لها الدفء المتسلّل من الداخل كيدٍ تمتدّ نحوها بعد غياب طويل. اجتمع حول الطاولة أبناء الأسرة وأحفاد صغار لم يسبق لعينيها أن احتضنتهم من قبل، فأخذت تحدّق في تفاصيلهم بحنينٍ يلمع في عينيها كدمعة مُمسَكة.
كانت كمن يعيد اكتشاف جذوره، وكمن ينفض عن قلبه غبار الغربة.
ضحكاتهم الطازجة تشقّ السكون، وتلوّن ملامح الأمّ التي لم يفلح الزمن في انتزاع رقتها.
امتدّ العشاء ساعات طوال، تبادلت خلالها إيفا مع الحاضرين قصص الغياب وأخبار السنوات التي حملتها بعيداً.
نقّبت ألبومات الصور كأنها تنقّب عن ذاتٍ ضاعت في دهاليز الزمن، تلمس الصور بأطراف أصابعها كأنها تتحسس حياة أخرى كانت لها يوماً.
وفي كل ضحكة، وفي كل حكاية، كان هناك ظلّ رقيق لحزنٍ لا يريد أن يختفي، حزنٌ يسكن عمق ابتسامتها منذ رحيل زوجها المفاجئ، ذلك المصاب الذي اقتلعها من حياتها الهادئة وزجّ بها في فوضى داخلية لم تجد لها مهرباً سوى عملها في بعثات الصليب الأحمر الطبية.
لشدّ ما كان ذلك العمل أشبه بقارب نجاة تُبحر به عبر جرحها المفتوح، محاولة لتملأ الفراغ القاسي الذي خلّفه رحيله.
لم تكن تهرب من ذكراه بقدر ما كانت تحاول أن تبقيه حيّاً في شيء من خير تؤديه.
كانت تؤمن أن كسرها يمكن أن يصير نافذة تتسرّب منها رحمة إلى الآخرين.
وحين انفضّ الجمع بعد العشاء، وخفَتَ صخب الأصوات، عاد البيت إلى هدوئه المألوف كأن الضحكات لم تزل ترفرف فيه.
غير أن إيفا شعرت بأن السعادة التي كانت تعمّ المكان ليست سوى بُقعة ضوء صغيرة فوق بحيرة من الأسئلة التي ترفض أن تغفو داخلها.
توجّهت إيفا نحو مكتبها بخطواتٍ هادئة تشبه تلك اللحظات التي يختلط فيها التعب بالحاجة إلى السكون.
كانت تحمل كوباً من شاي النعناع الساخن بين كفّيها كما يحمل المرء شيئاً يعوّل عليه لتهدئة ما يعجز عقله عن كبحه.
كان بخار الشاي يتصاعد أمام وجهها في خطوطٍ رقيقة، كأنه يحاول أن يربّت على أفكارها المضطربة، أو أن ينسج حولها حجاباً من الطمأنينة التي افتقدتها طويلاً.
الغرفة كانت غارقة في نصف عتمة، ذلك النوع من الظلمة التي لا تُخيف، بل تُهيّئ الروح للاقتراب عما تهرب منه.
وحده المصباح الأصفر على زاوية المكتب كان يصرّ على البقاء يقظاً، يلقي ضوءه الدافئ على الكتب المتراكمة
جلست أمام المكتب كما لو أنها تجلس أمام بوّابةٍ سرّية، بوّابة تقودها إلى فصلٍ آخر من حكايتها، فصلٍ لم تُقرّر بعد إن كانت مستعدّة لقراءته أم لا.
مدّت يدها إلى الحرز الموضوع فوق دفتر يوميّاتها، ذلك الكيس الصغير الذي رافقها منذ آخر مهمّة، منذ تلك الليلة التي انطفأت فيها حياة حياة وتركت خلفها هذا الأثر المربك.
ما إن لامس النسيج الخشن أصابعها، حتى شعرت باهتزازٍ خفيف في يدها، رعشةٌ لم تأت من البرد، بل من الذكرى.
قلّبته
بين
أصابعها
بحذر…
وكأنها تخشى أن ينفرط السرُّ المكبوت فيه بمجرد لمسة.
في تلك اللحظة أدركت إيفا أن اضطرابها لا يتعلّق بالحرز وحده، بل بكل ما ظلّت تدفعه إلى زوايا مظلمة لا تريد التفكير فيها.
كان الخوف أول تلك الأشياء، ذلك الخوف الكامِن الذي يتسلّل إليها كلما استدعت ذاكرتها صورة حياة المسجّاة على سرير المستشفى.
كانت ترى وجه الفتاة الشاحب، الجسد الخارج للتوّ من حياة قصيرة، والطلقات التي صادرت ما تبقى من حلمها.
كانت تسمع، في أعمق نقطة من الذاكرة، صدى الرصاص.
لم يكن مجرد صوت…
كان، كأن الزمن نفسه انشقّ في تلك اللحظة، وانسكبت منه الهشاشة التي صارت ترافقها منذ ذلك اليوم.
رفعت إيفا الحرز أمام عينيها كمن يزن بقلبه لا بيده ثِقَلاً خفيًّا لم يتجسّد بعد في لغة، لكنه يضغط على الروح كما تضغط الذكرى على جفنٍ مُرهَق.
لم يكن الحرز مجرد قطعة جلد قديم، بل كان نافذةً صغيرة تُطل منها على روحٍ لم تهدأ، وعلى مسالك مُعتمة حفرتها الأيام في صدرها فلم تعد تدري أين يبدأ الخوف وأين ينتهي الفقد.
حدّقت في خيوطه المعقودة، ثم شعرت وكأن صمت الأشياء حولها يسعى لفضح ما تخبّئه هذه اللفافة الضئيلة من أسرار.
تساءلت، بصوتٍ لا يسمعه أحد سواها:
“أهو تذكارٌ تركته حياة كي لا يبتلع النسيان أثرها؟
أم وصيّة أرسلتها من حدّ الغياب لتقودها إلى ما عَجِزَت عن رؤيته؟
أم لعلّه مرآة لروحٍ أُنهِك صوتها فصارت تستغيث بارتجافة خفيفة، تبحث عمّن يصغي قبل أن تسقط؟“
وضعت كوبها جانبًا، واستنشقت نفسًا عميقًا بدا كما لو أنه أول نفَسٍ تسترده من بين أنياب الماضي.
تمتمت بهمسة خرجت من عتبةٍ كانت تخاف الاقتراب منها:
“حان الوقت… لأعرف“.
مدّت
يدها
نحوه
ببطءٍ
حَذِر،
كأنها تخشى أن تستيقظ الأرواح النائمة بين ثناياه.
تناثرت الأوراق التي في داخله واحدةً تلو الأخرى، رقيقة كأجنحة فراشات ذابلة، مرقَّمة بأناة تنحدر من الواحد إلى العشرة…
كأن حياةً كاملة أُفرِغت في هذا الترتيب الغريب.
التقطت إيفا الورقة الأولى بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم فردتها ببطء، وكأنها تخشى أن تتمزّق الذاكرة ذاتها… وبدأت
القراءة…
الورقة الأولى
كانت حياتنا قبل مرض أبي هادئة كجدولٍ صغير ينساب بين بيوت الفقراء، بسيطة، مطواعة، لا تُفاجئ أحدًا. كان أبي يعمل سائقًا في الميناء، رجلاً لين الملامح، طيب الطبع، يملك من الصبر ما يجعل صوته دائمًا منخفضًا حتى وهو يواجه قسوة الدنيا.
كنتُ ابنته الوحيدة.
طفلة في العاشرة، أعيش في كنف والداي كزهرةٍ لا تعرف من الرياح سوى النسائم، فأنا موضع دلالهما رغم ضيق الحال، وكانا يشيّدان لي في كل يومٍ حلمًا صغيرًا يعوّضني عن كل ما ينقصنا.
لكن الربو الذي لازم أبي سنينًا طويلة بدأ يتحوّل إلى ذئبٍ ينهش أنفاسه نهشًا. لم يعد سعاله عارضًا عابرًا، بل صار يتردّد في صدره كطبول حرب تقرع في ليلٍ بلا نجوم.
ومع تدهور صحته اضطر لترك العمل، او لأقل سرح منه.
حصل بعد جهدٍ مُرهِق على تقاعدٍ هزيل لا يكاد يسد الرمق.
بدأت أمي تُخفي دموعها في المطبخ، وأصبح وجه أبي أكثر انطفاءً، وكأن الهواء الذي يستنشقه لم يعد يكفي لبقائه في هذا العالم.
وحين ضاقت السبل، اضطر أبي إلى استدعاء أخيه.
كان عمي ــ ذلك الرجل الذي لا يأتي إلا إذا احتاج ــ يعمل في سلك الشرطة، ويتاجر في الظلام بكل ما يمكن بيعه أو تهريبه.
جاءنا بزيه الرسمي، مسدّسه يتدلّى عند خاصرته كتهديدٍ صامت، وحضوره يملأ البيت رائحة خوفٍ لم أعرفها من قبل.
سأل أبي عن قدرته على إيصال بعض “الصناديق”، كما فعل في مرةٍ سابقة.
ولم يجد أبي بُدًّا من الموافقة، فالعوز كان شرسًا، ينهش في نبرة صوته ورجولته.
منذ ذلك اليوم صار بيتنا مخزنًا لعلبٍ مبهمة ولفائف غامضة، صناديق مُحكمة الإغلاق لا يجرؤ أحد على السؤال عمّا بداخلها.
كان عمي يكلّف أبي بنقلها وحده، مريضًا كان أم على حافة الإغماء، لا يهمّ.
كان يكلّمه من علٍ، يوزّع كلماته وكأنه يرمي صدقاتٍ على متسوّل.
أما أنا، فكنت أرتجف كلما دخل البيت بحذائه الملطّخ وعينيه الزائغتين؛ كنت أشعر، على صغري، أن حضوره يطفئ شيئًا من نورنا.
زاد عمل أبي مع عمي مرضًا فوق مرض.
صار فراشه ضيقًا عليه، وأنفاسه كخشبٍ يابس يشقّ طريقه نحو الاحتراق.
وحين أخبرنا الطبيب بأن أيامه صارت معدودة، انكمشت أمي كظلّ يُسحب من عنفوان نهاره، بينما لم يكلّف عمي نفسه حتى بالسؤال عنه.
كنتُ أذهب إلى المدرسة بخطواتٍ متردّدة، أختبئ خلف صديقاتي، أستعرِض وجوههن لأتأكد أن أحدًا منهن لا تعرف بصدقات الجيران التي صارت أمي تقبلها مُكرهة. كنت أخجل، بل كنت أشعر بأن العالم كلّه ينظر إليّ بعينٍ تُشفق وتدين في آنٍ واحد، وكنت أبكي سرًا حين أسمع أمي تستقبل زوّارًا يحملون لنا ما يسد رمقنا.
وبعد اشهرٍ قصيرة وثقيلة، رحل أبي.
رحل وكأنه اعتذر عن الحياة، وتركنا معلّقتين في هواءٍ ملتبس لا نعرف كيف نتنفسه.
لم تمضِ أيام حتى أدركنا أن موت أبي لم يكن نهاية العذاب…
بل بدايته.
فقد أصبحنا تحت رحمة العم، ذلك الذي كان ظلّه وحده كفيلًا بأن يصادر الدفء من البيت.
كنت طفلة،
نعم…
لكنّ قلبي كان يرى ما لا تراه أعين الكبار. كنت أعلم، بيقينٍ يشبه حدس الجياع، أن الأيام المقبلة ستختبر قدرتي على البقاء… وأن الخوف الذي يسكن البيت لن يغادر بسهولة.