أزمة البوح والإنصات

أزمة البوح والإنصات

اللوحة: الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا

أيوب بولعيون

يجد الإنسان نفسه داخل عالم الثقافة المجتمعية القائمة مغتربا، نكرة، غير قادر على فهم ذاته واستيعاب مكنوناتها وما يفور داخلها من مشاعر وأحاسيس متشظية، ومعاني مفككة متناقضة، متضاربة، ذات في علاقة متوترة وصراع، قلقة مع نفسها والواقع والسياق الاجتماعي والثقافي الحاضن لها، غير قادرة على بناء فعل تواصلي صحي وسليم مع نفسها والعالم الخارجي، وذلك لغياب الآليات والميكانزمات الأساسية لذلك، مقابل حضور المعيقات والحواجز المانعة منذ التنشئة الاجتماعية والسيكولوجية الأولى للفرد، إذ لا يمكن تحقق المشروط بغياب الشرط، وبالتالي فهي ذات تجهل ذاتها، تتخبط في ردات فعل لا تعقلها، تتوارى للظل صامتة، حائرة، خجولة، متنكرة برداء تمويهي داخل حفلة تنكرية بأقنعة مزيفة، مستعارة من قواميس الوجود الهزيل المضطرب لعلاقة الذات بنفسها والآخر، بحيث أضحى الوجود المزيف للذات هو الظل الذي تتفاعل فيها الأنوات مُشكلة علاقات معقدة تفتقد للأصالة، لأنها لا تملك آليات خلق وجود حقيقي نابع من التجربة الوجودية، بل العكس تماما، وجود مصطنع خارج من رحم قيم ثقافية نسبية وممارسات تربوية تنشئوية، فهل من سبيل لوضع مسافة آمنة بين الثقافة والطبيعة الإنسانية؟. وكيف يمكن خلق علاقة أصيلة بين الذات ومحيطها والخروج بها من عالم التنكر والتخفي إلى عالم من التلقائية والظهور الحقيقي بما يخدم نماء وجودة ونضج العلاقات الإنسانية؟

إن مشكلتنا التي تجعل من وجودنا يفتقد الأصالة والتلقائية الطبيعية، هي غياب ثقافة البوح والكلام والتعبير عند الشخص كجزء مهم في عملية التواصل والتفاعل مع الحياة بمختلف مواقفها وتجاربها ومحطاتها وما تحمل من تغيرات ومنعطفات ومنحدرات كثيرة، في مقابل حضور ثقافة الصمت القاتل والكبت بمفهومه السلبي الهدام، وذلك نتيجة حتمية لعدة اسباب منها غياب الآذان الصاغية القادرة على استيعاب آدمية الإنسان وصوته الداخلي، وهي مشكلة تربوية بالأساس ضاربة في التربة والبيئة الأولى التي احتضنت الفرد وشكلت ملامح شخصيته، فهي المسؤولة عن التكوين النفسي والاجتماعي وبناء التصورات والتمثلات والرؤى والمعاني المكتسبة، المتعلقة بشتى الأمور من سلوكيات، أخلاقيات وعلاقات وقيم ومعايير، وهذا يتم بفضل إكساب وتلقين اللغة من خلال المفاهيم والكلمات التي تُرسخ داخل الحياة اليومية منذ الطفولة، عبر آلية التكرار والاعادة، فاللغة بما تمتاز به من قدرة على الخلق وإيجاد المعاني داخل بيئة اجتماعية دون أخرى، قادرة على غزل نسيج حياتنا الفردية والاجتماعية، والشفرة التي تمكننا من قراءة علاقتنا بأنفسنا والآخرين وفهم ما يعتري ذلك من لبس وغموض وإشكالات متشعبة عميقة.

يتعلم الطفل في بواكير حياته معجما يرى به العالم، وما يحيط به من مظاهر وظواهر، يتعلم اللغة لكي يقول ما يجوز أن يقال، وما تسمح به المعايير الاجتماعية التي شكلتها الأعراف والتقاليد والأفهام البشرية، كما يتعلمها أيضا لكي يخفي الكثير ويكتم في نفسه ما يمكن أن يتعارض مع هذه المعايير المنتصبة والبيئة الثقافية الحاضنة كمعايير الرجولة والانوثة والعفة والقوة الحياء…، وذلك بمسميات كثيرة (حشومة، عيب، عار…) وغيرها من كلماتمسكوكة، تصنع “الطابو” والممنوع في ذهن الفرد وتجرهُ إلى الانكفاء على ذاته وكبت وقمع ما يراوده من أفكار ومشاعر قوية، وهنا تأتي الحاجة الانسانية الملحة إلى البوح والتنفيس عن الضغوطات (الأفكار والمشاعر المخزنة الحاضرة في اللاوعي)، باعتبار البوح حاجة طبيعية فطرية، وعملية تطهير بلغة أرسطو، التي تعيد الإنسان من جديد إلى دينامية الحياة بعد إزاحة الثقل والضغط عن كاهل النفس. وهنا قد يطرح السائل: لمن نبوح وبأي شيء نبوح؟

إن البوح يشترط وجود ثقافة الأذن، أذن صاغية مستمعة، متفهمة، بعيدة عن منطق الاستقواء وإطلاق الأحكام الصورية الجاهزة، واعتبار كل بوح استهلاكا كلاميا فارغا أو طريقا ملتويا ماكرا للوصول إلى مقاصد خفية أو تزجية للوقت، يحتاج البوح الإنساني لعقلية تستوعب الآخر وجدانيا وفق تجربته الخاصة، وليس عقلية المواعظ الجافة واستعراض الحكم والعبر النظرية. هناك بوح بالمشاكل يحتاج لمستمع خبير قادر على التوجيه والارشاد وإيجاد الحلول الناجعة بعيدا عن منطق العاطفة وما يستتبعه من مشاعر الشفقة والأسى والعطف دون نتيجة ملموسة، في جهة أخرى يوجد بوح لا يحتاج إلا لإنسان ناضج متفهم، مُنصت لما يقال له، بعيد عن منطق التحري البوليسي وتفتيش النوايا والأسئلة العقيمة التي تكبح وتُعيق عملية التواصل الفعال، بعيد عن مقدمات المنطق الحسابي وآليات العرض والطلب، فالإنسان أكبر وأوسع من وضعه في هذه الخانة والتفكير الضيق، الغير القادر على فهم الظاهرة الإنسانية وتقمص حالة الآخر وفق شروطه الموضوعية والذاتية الشخصية. إن الآذان التي تعجز عن الإنصات هي آذان عاطلة توحي بكائن شبحي لا يشعر بالآخرين، ضائع لا يفهم نفسه.!

في ذات السياق قد يحتاج البوح بما هو حديث في الشخصي الحميمي إلى شخص تتوفر فيه شروط النزاهة والوفاء والأمانة والصدق، بدءا من أقاربنا وأصدقاءنا مرورا إلى الفضاءات المفتوحة التي اتاحتها وسائل الإعلام السمعي البصري، وإلا كانت النتائج معاكسة لما يرجوه الشخص من بوحه من انفراج وتفريغ سيكولوجي يعيد الإنسان لانسيابية نهر الحياة.

إن البوح المطلوب ههنا، الذي بإمكانه أن يؤدي وظيفة تحرير الإنسان من قيود الصمت القاتل والضغط النفسي، ليس البوح العشوائي المتهور بكل شيء ولمن هب ودب وكيفما اتفق، فهي حالة من الفوضى والميوعة وابتذال المواضيع الحساسة وانتهاك حرمة الإنسان التي أصبحت تؤثث بعض منصات التواصل الاجتماعي كاليوتيوب والفايسبوك، حيث فسحت المجال أمام الجميع بدون رقابة وتقنين، حتى أضحت سوقا لعرض مواد وسلع رخيصة بلغة سوقية حلايقية فرجوية، تفتقد لأدنى الضوابط الأخلاقية، يكون غرضها الأساسي، خلق الضجة و”البوز” وجلب الجمهور وحصد اللايكات والتعليقات لجني الأموال عبر إثارة العواطف واستجداء القلوب، وكم رأينا من شخصيات تخرج كل حين بفيديوهات يطبعها الحزن والألم والشكوى، ومشاركة مشاكل شخصية عابرة مع العموم، حتى يكاد يعتقد المرء أن ذلك أصبح مهنة جديدة ومنحى افتراضي ولده غياب التربية الصحيحة للتعبير والبوح وعدم التشبع بثقافة الستر، ومراعاة التوازن للذات بين عالمها الداخلي الفردي والعالم الخارجيهذه الحالات الشاذة التي لم تتلقَّ الدعم المناسب الكافي والتربية السليمة، لا يمكن أخذها نماذج للتعلم والتأسي، فالفرق شاسع بين التعاطف الاستهلاكي الجماهيري وبين الإنصات المسؤول والنصح وتقديم المساعدة، فرق بين ثقافة الفضح التي تعيث في الأرض الفساد وبين ثقافة البوح التي تُشيع روح الحياة، وتوطد الروابط الأسرية والاجتماعية بين الأفراد، وتحفظ من الانهيارات جراء سقوط آليات الدفاع، فالبوح سواء بالكلام أو بآليات أخرى وقاية من الاضطرابات والانحرافات نحو العنف كطرق بديلة للتنفيس والتفريغ.

يمكن للبوح ان يشكل وقاية وعلاجا فعالا، يقي الإنسان مما يضره ويهلكه وبمجتمعه، فهو وقاية لكثير من الأمراض الجسدية والفيزيولوجية التي تنشأ بسبب عدم القدرة على التعبير عن المشاعر وما يفور داخل بوتقة المجال العاطفي الوجداني، فيؤثر ذلك على باقي ابعاد الشخصية. إن البوح عملية تؤهل الإنسان نحو حياة متوازنة، فها هو الطفل(ة) يحكي لوالديه أو لاخوته أو لجدته أو لأستاذه ما يحزنه ويقلقه ويغضبه ويخيفه ويشتت تفكيره…، يفرغ كل ما في جوفه من ضغط نفسي بدون خوف وبكل اطمئنان، الفتاة تبوح لأمها وأخيها أو والدها بما تعرضت له من اعتداء وابتزاز جنسي أو عاطفي في الشارع والمدرسة والعمل، من غير خوف أو وصم بالعار، وغيرها من أشكال العنف الجسدي واللفظي التي تحتاج للتدخل والإنصات، أو تعترف بمشاعرها المتضاربة وما يفور بداخلها وبأحلامها ومخاوفها…، الشاب أيضا يفصح ويكشف عن متغيراته الدراماتيكية ومستجداته النفسيه والوجدانية والفيزيولوجية لأقرب الناس إليه بكل عفوية وتلقائية، ويبوح بمشاعره الجنسية المندفعة دون إحساس بالذنب والندم والدناءة، الطالب الجامعي وهو يصارع التحديات والمشاكل، نشدانا لحياة كريمة سعيدة، يعترف بظروفه العاطفية الجنسية وأحواله الاقتصادية المتعبة وظروفه الاجتماعية المقهورة وتطلعاته المستقبلية…، الزوجان مع بعضهما البعض، يبوح كل منهما للآخر بهمومه وضغوطاته النفسية وتحفظاته، مما يجعل العلاقة قوية مبنية على الحوار والإنصات والوضوح، لا على الكبت والتجاهل والانتقام ونصب المكائد، والحيران التائه يبوح بأسئلته وشكوكه لرجل أمين، تقي ناصح يقود به إلى طريق الرشد والهدى…، هكذا يمكن أن يكون البوح للآخرين اختيارا ناجعا للحفاظ على سلامة النفس والعقل وخلق حياة طبيعية بعيدة عن كل مظاهر الهدم والتصدع. كما لا يعني هذا أيضا إخلاء جميع الخصوصيات والأسرار من مساحة الفرد الداخلية، فمن حق كل إنسان ان يحتفظ في نفسه ما يريد ويشاء، خصوصا إن لم يكن مُدعاة للكشف عنه.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس والمبعوث لإتمام مكارم الأخلاق نموذجا تربويا يقتدى به في ثقافة الأذن، وذلك بالإصغاء لهموم الناس وأحزانهم ومشاكلهم وآهاتهم بحسن الاهتمام ورحابة الصدر دون قمع وإحراج أو إصدار أحكام مسبقة زجرية، بل كان يترك المتحدث يفضفض ويشكو ألمه، ويقابله بكل وجوه الحنو والعطف والرحمة وهو يأخذ بيده ناصحا مرشدا، فكان عليه السلام يأخذ بعين الاعتبار مشروطية الآخر بعيدا عن منطق الاسقاطات والأسئلة الجافة، ولنا في سيرته العطرة عدة مواقف وقصص للعبرة، فها هو الشاب المُثقل باضطرام الشهوة في صدره، يقصد النبي يستأذنه في الزنا وارتكاب أشنع الموبقات التي كان القرآن صريحا في تحريمها، لخطورتها في تخريب الفرد وتفكيك المجتمع، ورغم ذلك كان نبي الرحمة حكيما في الإجابة والرد بلباقة وحِلم وهدوء، فناداه أن يدنو إليه ليطرح عليه الأسئلة: أتحبه لأمك؟، أفتحبه لابنتك؟، أفتحبه لأخته؟… إلى آخر الحوار، ليغادر الشاب هذا المجلس التربوي المهيب كارها لهذه الرذيلة والفاحشة النكراء، وهنا تتجلى أهمية الإنصات والتفهم في التوجيه والإقناع وعلاج المشاكل بعيدا عن منطق التعنيف واللوم، الذي يؤدي للنفور وتأزم العلاقات وتفاقم الأزمات، بدل إيجاد مخارج لها، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الإنصات مصغيا للناس، أصبح المنافقون في زمانه يعيرونه بأنه مجرد ” أذن”، أي أنه يستمع للجميع ويصدقهم على اساس أنه لا يميز بين الصادق والكاذب وبين الصالح والطالح، فنزلت الآية الكريمة في سورة التوبة الآية 61 ( وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُو أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ للمؤمنين وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ). لتكون تعزيزا لثقافة الإنصات والاستماع في الخير والإصلاح لا في التجسس والغيبة والشرور كما هو منتشر في زمن التفاهة والانحطاط الأخلاقي.

على سبيل الختم، لا بد من نشر الوعي وتكثيف الجهود للتأسيس لثقافتي البوح والإنصات، ثقافة الإنسان سند لأخيه الإنسان بدل ثقافة الإنسان ذئب لأخيه الإنسان التي ترسم صورا من الصراع والثأر والانتقام، وبداية التأسيس هذه يجب أن تنطلق من الطفل/ الطفولة، داخل أسرته ومدرسته ومحيطه الصغير، بأن نعلمه ونغرس فيه ثقافة البوح والاعتراف بكينونته، وذلك بالإصغاء إليه في كل الحالات باهتمام حتى وإن بدا لنا ذلك غير واضح ومفهوم أو صغير الشأن والقيمة، لكنه عظيم وكبير بالنظر للأثر والعاقبة، وتوفير الدفء العاطفي المناسب، حماية له من أشكال الانحراف والضياع، والتخلص من بواقي ثقافة التخويف والعقاب والتوبيخ والتحقير التي لا تنتج إلا شخصا هشا، يخاف من النقاش والتفاعل والاعتراض، الإقدام والاقتراح، الانتقاد،لا يعترف بفشله وضعفه ونقصه أمام نفسه، ونفهم أن الصمت لا يعني فقط الأدب والحكمة والتعقل !، بل هو كلام ممنوع وإيماءات وحركات، بكاء، احتراق، استغاثة…، ما يدعونا لتشجيع الكلام والبوح والتفريغ حتى لا يتحول الصمت إلى لعنة وكارثة نفسرها بأسباب أخرى واهية، فليس كبت المشاعر والإعراض عن التعبير وطلب المساعدة أو مجرد بوح أو رغبة في التواصل لتجاوز العواقب الوخيمة، دليلا على القوة والصلابة، بل هومؤشر على الضعف والهشاشة وغياب حكمة التدبير الذاتي، وعدم القدرة على الاستماع لفضفضة الآخر تعبير عن العجز والفشل في التواصل مع الذات ومُصالحتها أو دلالة على مخزون لاشعوري من تمثلاث خاطئة، أو نتيجة لغياب ثقافة الإنصات والاحتضان. إن الأطفال كما يقول ألكسندر لوفن، ولدوا أبرياء، بدون كبت أو شعور بالذنب تجاه أحاسيسهم.

لتشييد بنيان صحي سليم يتفق مع الفطرة السوية، وَجب جعل علاقة الإنسان بنفسه محور الاهتمام حتى يتسنى له فهم ذاته ومد أيادي التصالح والتواصل معها ومع الآخرين بشكل أفقي، بعيدا عن منطق التحقير والجفاء والاستهزاء والآذان الصماء، كما أن هذا المبتغى المنشود في حاجة لخلخلة بعض التصورات الثقافية الخاطئة، وإعادة النظر في بعض الأفكار والمعايير والتمثلات التي لم ينزل بها برهان. هكذا يجب أن نقرر جميعا، نهدم جدران الصمت الكئيبة الموحشة والانسحاق الداخلي الفردي ونبعث ثقافة البوح والإنصات، وتوفير الطرق الناجعة للتفريغ حبا في الإنسان والحياة التي وهبها الله، لنعيشها بالتيسير لا بالتضييق وإحالتها إلى جحيم.

يقول المحلل النفساني النمساوي سيغموند فرويد: “إن حقيقة الإنسان ليس فيما يقوله بل فيما لا يقوله”.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.