سلام دافئ

سلام دافئ

اللوحة: الفنان الأميركي جان باسكيات

هبّ من كرسيه، اقترب منّي، قال: أنت فلان؟ لم ينتظر إجابة منّي، إذ أكمل: خالك يرحمه الله، كان الأعز بين أصدقائي. بيني وبينه جولات كثيرة، لطالما اتفقنا على أمور واختلفنا على قضايا مصيرية.

ارتفع صوت المقرئ فأخرس الرجل، الذي صمت على مضض، ثم رجع سريعًا إلى مكانه، جلس ترتعش ساقاه، ظل ينظر إليّ، يشير بأصابعه في الهواء بحركات ليست عشوائية، كأنما يخاطبني بلغة الإشارة ليخبرني ببقية حكايته مع العزيز الراحل، متجاوزًا عقبة التلاوة الدائرة في قاعة العزاء الملحقة بمسجد عبد الله وهبي.

بنهاية الرُبع، أسرع الرجل من جديد إليّ، قال: رحم الله خالك، تلازمنا في المدرستين الابتدائية والاعدادية وتفرقنا في الثانوية، غير أن علاقتنا ظلت كما هي قوية تنمو يومًا بعد يوم.

ثم أغمض عينيه، عاد برأسه للوراء، تنسّم بعض هواء، قال: أتعرف أنه كان حسن الصوت، يقلّد عبد الوهاب في لثغته، وإن كان أجمل صوتًا منه. وافر الحظ، فما سار في طريق إلّا وكان التوفيق بجانبه، النجاح حليفه. 

ثم توقف، ربّت على ركبتي اليمنى، قال: من الرائع أن يكون لك خال كهذا الرجل، أغبطك على وجوده في حياتك. بل أننا كنّا في المدينة نغبط الحياة على وجوده بها.

كان عمّال السرادق يلملمون حاجياتهم، يرصّون الكراسي على بعضها في ترتيب يجيدونه، قد خلا المكان إلّا منيّ والكهل بذكرياته المتدفقة. يبتسم، يعبس، يتجهم، تدمع عيناه، ترتخي عضلاته فيغوص في مقعده، قد تنقبض فينتفض كمن لسعه عقرب. كل ذلك يفعله في متتالية لا نهائية، حين قطع علينا وافد، لمّا اقترب عرفته، وقفت له أحييه: أهلا بخالي العزيز. كعادتك أتيتَ متأخرًا، العزاء انفضّ من فترة.

ثم أشرت للرجل الجالس جواري، قلت: يقول أنه يعرفك -يرحمك الله- من زمن بعيد.

حين التفت إليه خالي، التقت أعينهما. تلاقت الأيدي، انهمرت السلامات الدافئة والأحضان الودودة، ندّت عن خالي آهة عميقة، أعقبها بقوله: أين أنت يا رجل؟ لم أرك من سنين بعيدة.

  • رد الرجل بحزن يمتزج بجفاء غريب: نعم، منذ وفاتك المفاجئة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.