الحرزـ (9)

الحرزـ (9)

اللوحة: الفنان السويسري جون هنرى فوسيلى

سعاد الراعي

الجزء الرابع من الفصل الثامن من رواية تحت الطبع للكاتبة سعاد الراعي

  • أوراق الحرز (4)

الورقة السابعة

كأن البلاد قد انفجرت من داخلها، كجرحٍ ظلّ يخفي نزفه طويلًا ثم انفلت فجأة. خرج الناس إلى الشوارع يصرخون بالعدالة، يطالبون بإطلاق المسجونين، يهتفون ضد القهر، حتى بدا أن الهواء نفسه صار يحتجّ. وما هي إلا أيام حتى سقطت جدران النظام مثل غبار تهاوى تحت المطر. انتشرت الفوضى كحريقٍ يتغذى من اليأس، تتقاذفها عصاباتٌ، وولاءاتٌ جديدة، وكلٌّ يمدّ يده ليقتطع نصيبه من الخراب.

في هذا الانهيار تغيّر عمي… لا، بل تكشّف. كانت لحيته التي نبتت فجأة لا تشبه التديّن، بل تشبه ستارًا يُخفي شيئًا أعمق من الدناءة، وأشدّ ظلمة من الخسّة. صار يتجوّل في الحي وخلفه رجال مسلّحون، يرفعون شعارات الدين على أكتافٍ تلطخت بالغنائم. يتحدثون عن الشرع كما يتحدث اللص عن مفاتيحه. وعندما يعودون إلى البيت، كان المكان يضيق بأنفاسهم، بأصواتهم الثقيلة، بضحكاتهم التي تجرح جدران الليل.

تحوّل بيتنا إلى وكر، لا يكاد يخلو من السلاح والرجال. 

أمّي

 وأنا 

نخدمهم كأننا غبارٌ في طريقهم. العيون “آه تلك العيون” لم تكن تنظر، بل تنهش. رغم حجابي، رغم محاولتي الانكماش في ظلٍّ أصغر من جسدي، كانوا يرونني. يرون اللحم الصغير الذي صار عبئًا عليّ، يرون خوفًا يحلو لهم أن يروه لأن الخائف يسهل امتلاكه.

لم يكن عمّي يومًا رجلًا رحيمًا، لكنّ البلاد حين احترقت، احترقت معه بقية إنسانيته. كان قد هتك طفولتي وأنا في العاشرة، سرق براءتي ثم أخفاها كما يُخفى جرمٌ مُحكم الإغلاق. كنت أظنه يومها ذئبًا واحدًا منفردًا، لا يتكاثر، لكني كَبُرت لأكتشف أن الذئاب تتوالد حين ترى الفوضى وتمعن في الطراد والاغارة، وأن الوحش الذي مزق جسدي في صغري صار اليوم قائدًا لقطيعٍ جائع. وما عاد يخفي رغبته في بيعي لهم، واحدًا تلو الاخر، باسم “الزواج” و”الشرع”، كفضيلةٍ تُهدى، لا كطفلةٍ تُذبح.

كنت في الرابعة عشرة، لكنني أشعر أن عمري صار ضعف ذلك. كأن السنوات التي سُرقت مني أثقلت ظهري قبل أن يشتدّ جسدي الذي بدأ يتغير، يتفتح على أنوثةٍ لم أطلبها، ولم تحتملها روحي، بل صارت نذيرًا لما ينتظرني. وكنت أخشى الليل أكثر من النهار، لأن الليل يحرر وجوههم من الأقنعة. يضحكون كثيرًا حين يذكرون “التزويج”، يتهامسون عن “الليلة المباركة”، كأن الشرّ حين يُعطى اسمًا دينيًا يصبح نعمة.

في تلك الليالي، حين يدوّي الرصاص في الخارج، كنت أشعر أن الحرب كلها تتواطأ علينا. البيت يهتز، الشوارع تعوي، لكنّ خوفي الحقيقي لم يكن مما يجري للبلاد، بل مما يجري لجسدي، لروحي التي تختنق كلما ورد اسم “الزواج” على لسان عمي. كنت أعرف أنه لا يقصد بي إلا الصفقة، إلا البيع، إلا أن يُسَلّمني لأول رجل من عصابته يرفع يده. كنت أعرف أنني سأُعرى من كل شيء، من أمي، من نفسي.

أمّي 

كانت ترى وتخاف، 

لكنها عاجزة… 

مكسورة. 

تنظر إليّ أحيانًا وكأنها تعتذر عن الحياة كلها، ثم تخفض عينيها قبل أن يفضحها البكاء. كنا نغرق معًا، لكنها كانت تخشى أن تسبح، وأنا كنت أخشى أن أموت دون محاولة.

الورقة الثامنة

وفي إحدى الليالي التي انشقّ فيها الظلام عن أصوات اشتباكٍ قريب، عاد عمي متجهمًا، غارقًا برائحة البارود والتعب. دخل غرفته ثم ناداني بصوتٍ ملغوم. كان صوته وحده يكفي ليعيد إليّ كل الكوابيس التي سجنتني منذ العاشرة. ترددت لحظة عند الباب. تساءلت: ماذا بقي لي بعد أن سفك طفولتي؟ ماذا يمكن أن يأخذ أكثر؟

دخلت. كان يجلس في عتمةٍ لا يضيئها إلا خيط من نور متعب. لم يكن ينظر إليّ كطفلة، بل كشيءٍ يُسوَّق. قال لي بهدوءٍ شرس:
غدًا… سيأتي من سيتزوجك. شرع الله، ولا اعتراض.”

شرع الله… كم من الجرائم تُرتكب حين يتوارى الله ويُترك الشرع بين أيدي الوحوش.

تجمدت. شعرت كأن الأرض انكمشت حتى غدت حافة هاوية. وعندما اقترب مني، خطوة بعد خطوة، نهض شيء في داخلي، شيء لم أعرفه من قبل. ربما هو الظل الأخير من إنسانيتي، ربما هو ما تبقى من طفلةٍ لم تمت بعد رغم كل شيء.

تراجعت. 

قال غاضبًا:
لا ترفعي عينيك عليّ هكذا والاّ!”

لكنّني 

رفعت 

عيني. 

ثم صرخت… 

صرخة خرجت من عمقٍ لم ألمسه أبدًا من قبل. 

وركضت… 

وركضت نحو حضن امي… 

ركضت كأن الأرض تشتعل تحت قدمي، كأن صرختي كانت أول نسمة حريةٍ عرفتها.

لم أنتصر بعد. ما زلت في بيتٍ تحكمه البنادق، وتديره الذئاب. لكني في تلك الليلة أدركت أمرًا واحدًا، يكفي لأن يُبقيني واقفة:
إن الروح، مهما ضُيّقت عليها الجدران، تظل قادرة على أن تتمرد… وأن تحيا…

الورقة التاسعة

لم تعد الغرفة غرفةً بعد ذلك اليوم؛ صارت كهفًا مظلمًا، وسجنًا بابه يقف على صريرٍ مرعب يمكن أن يُفتح في أي لحظة بيد رجلٍ يظن نفسه “مشتريًا” لجسدي. كل زاوية فيها.صارت فخًا، كل ظلّ.. احتمالًا لهجوم، وكل دقيقة.. انتظارًا لطاغٍ جديد يقتحم عالمي الصغير باسم: 

الصفقة،

 الشرع، 

والمال. 

كنت أعيش في تلك العتمة كعصفورٍ جريح، لكنه رافضٌ أن يُمدّ له أحدٌ يدًا تُقص جناحيه.

وحين دخل أولهم… كان يجرّ أذيال رائحةٍ كريهة من التديّن المزيف، يتمتم باسم الله وهو يتنحنح كمن يتهيّأ لخطيئة يريد لها غطاءً من السماء. لم يخجل من نظراتي، ولم يتردد لحظة. أنا وحدي التي كنت أتردد بين الهرب والصراخ والقتال. تجمّدت في زاوية الغرفة، أرتجف غضبًا، لا خوفًا. قال بصوتٍ خشن:

لقد دفعت لعمّك… وسأصلي قبل كل شيء.”

كم من الجرائم تبدأ بالصلاة حين يفقد الناس معنى الله!

قلت له، وأنا أشعر بصوتي يتحول إلى سيف:
لكنني لم أوافق على الصفقة.”

اقترب خطوة، وفي عينيه تلك الوقاحة التي تتغذى من الفوضى، وقال ببرود:
دفعتُ… وهذا يكفي.”

أجبته، واقفةً رغم رجفة ركبتي:
اخرج الآن… لن تلمسني إلا على جثّتي.”

ابتسم ابتسامة مستترة بالسخرية:
ليس هناك وقت للجدال… ولم أكن الوحيد الذي سيدخل هذه الغرفة.”

كانت تلك اللحظة شرارة. اندفعت نحو الباب بكل ما بقي في جسدي من قوة، لكنّه كان أسرع، قبض على ذراعي بقوة ذئب، ثم ضرب ظهري بمقبض رشاشه. سقطتُ، غير أن القدر وضع بجانبي أحد الكراسي الخشبية. أمسكت قائمته بكلتا يديّ، وصرخت صرخةً خرجت من أعماق السنوات التي سرقوها مني، ثم هويتُ بالكرسي عليه. لم يكن يتوقع أن تنهض صبية مكسورة في وجهه.

ترنّح، ثم انقضّ كحيوان يُدرك أن فريسته قاومته. التقط الكرسي من يدي، رفعه عاليًا ثم هشّمه على كتفي وظهري، تتناثر أجزاؤه في الغرفة كأنها شظايا من حياةٍ تتكسر. الألم لم يشلّني، بل أشعل شيئًا داخلي. شيء يشبه صمود شجرةٍ ضربتها العاصفة فلم تنحنِ.

ثارت ثائرته، وراح يضربني بعقب الرشاش على رأسي، مرارًا، وهو يصرخ:
ستطيعين! غصبًا!”

لم أُطع. 

لم أصرخ طلبًا للنجاة، بل صرخت لأردّه عني.

وعندما سقطت إحدى شظايا الكرسي قرب يدي، قبضت عليها، ونهضت مترنّحة، كأنّي أنهض بآخر قطرة كرامة تسري في عروقي. وباغتّه بضربةٍ على زند ذراعه. صرخ، ثم استدار وصفعني صفعةً كادت تخلع روحي من جسدي، وأسقطني أرضًا.

انقضّ عليّ بعدها بوحشيةٍ عمياء، يفترسني وكأنه ينتقم لرجولته التي هزمتها فتاةٌ، لم يتوقع مقاومتها. لم يكن في ضرباته سوى الحقد، ولا في أنفاسه سوى الغلّ. وحين انتهى من وحشيته، بصق على وجهي… بصقة كانت أقسى من الضرب. ثم خرج، يصرخ ويشتم، كأنه هو من تعرّض للظلم.

تركني جثةً ممدودة، نصف واعية، نصف طافية فوق الألم. كنت أشعر بدمي يسيل على الأرض، بدقات قلبي تتثاقل، وبجسدي كأنه ليس لي. أضربت عن الطعام والشراب، حتى أمّي… لم أعد أريد رؤيتها. ليس لأنها مذنبة، بل لأنها عاجزة، ولأن عينيها حين تلمحانني تحملان ألمًا لا أحتمله.

لم تمرّ سوى ساعات، حتى فُتح الباب مرة أخرى… صوت ثقيل، خطوات خشنة، ظل رجل آخر يملأ المكان. لم أعد أميّز الوجوه، صرت أرى كل رجل وحشًا بوجهٍ واحد. حاولت أن أصرخ، لكن الصوت خرج خافتًا، كأن حنجرتي ترفض العودة للحياة. حاولت أن أزحف بعيدًا، لكن جسدي لم يعد يستجيب. شعرت ببرودة المكان تحاصرني، ثم عتمة ثقيلة طاشت فوق رأسي.

لم أعرف كم اجتمع حولي من الذئاب. كانوا يتداولون الغرفة كأنها مسرح مُظلم يُعاد فيه المشهد نفسه، وأنا جثةٌ لا تقاوم إلا بعينيّ حين تفتحان لثوانٍ وتحدّقان فيهم بحقدٍ يرفض الموت. كنت أرى فيهم ذئاب مفترسة، تأكل فتاةً مرمية على حافة الحياة.

لم أصحُ إلا على صوت أمّي وهي تبكي وتصرخ:
حياة… حياة! تنزف… بُنيّتي تنزف! يمكن أنها ماتت!”

لكنني لم أمت.

كنت معلَّقة بين الحياة والموت، لكن شيئًا داخلي ــ ككل مرة ــ رفض أن يستسلم. كانت روحي، رغم كل ما جرى، تُمسك بي وانا اتدلى من حافة الهاوية وتقول:
اصمدي… لم يبقَ إلا أنتِ لكِ.

ورغم أن الجسد كان منكسرًا، كانت الإرادة ما تزال، كجمرةٍ صغيرة في عمق الركام، ترفض أن تنطفئ.

يتبع


الحرزـ (8)

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.