د. شريف الجيار
اللوحة: الفنانة المغربية فاطمة طهوري
تناولنا في الحلقة الماضية من دراسة الدكتور شريف الجيار كيف جسدت رواية نجيب محفوظ «ليالي ألف ليلة» الواقعية السحرية في الأدب، والتي تمثل مزيجًا من الفانتازي والواقعي لتشكل إطاراً أوسع من قوالب الواقعية الضيقة، وفي هذه الحلقة – وهي الأخيرة من هذه الدراسة – يتوقف الباحث عند المكان المحفوظي ورمزية الوجود، وكيف لعب المكان دورًا مركزيًّا في تشكيل البنية السًّردية لعالم نجيب محفوظ الروائي.
لعب المكان دورًا مركزيًّا، بارزًا في تشكيل البنية السًّردية، لعالم نجيب محفوظ الروائي، حتى أصبح النافذة التى يرصد سارده من خلالها، الواقع المعيش بكل تغيراته الحضارية، وهمومه الإنسانية، التى يستشرف من خلالها المصير الإنساني، في ظل عبثية وجودية، ممتزجة برؤية صوفية، ارتقت بالمكان لدى محفوظ، حتى أضحى مركزًا للعالم، ورمزًا للوجود؛ كما تجلى في رواياته: «القاهرة الجديدة، خان الخليلي، زقاق المدق، بداية ونهاية، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، اللص والكلاب، ثرثرة فوق النيل، حكايات حارتنا، ملحمة الحرافيش، وغيرها. وفيها احتفى السارد بالمكان، لاسيما القاهرة الفاطمية، قاهرة المعز، بأزقتها، وحواريها ومقاهيها وأحيائها؛ كي يرصد التغيرات الاجتماعية والسياسية والحضارية، التى يمر بها الواقع المصري المعيش.
على أن الخطاب السّـَردي المحفوظي، بشكل عام، قد أولى «المقهى»، اهتمامًا كبيرًا، في أثناء إبداعه الروائي، «…المقهى يلعب دورًا كبيرًا في رواياتي، وقبل ذلك في حياتنا كلنا، لم يكن هناك نواد، المقهى هو محور الصداقة…»(56). فهو مصدر للحكى واجترار الذكريات، والفضفضة عما يجيش في الصدور من هموم حياتية، شخصية ووطنية.
المقهى يلعب دورًا كبيرًا في رواياتي وقبل ذلك في حياتنا كلنا لم يكن هناك نواد، المقهى هو محور الصداقة #نجيب_محفوظ
وقد انعكست هذه الرؤية المحفوظية للمكان، على بنية المكان ودلالاته المتعددة، في بنية الخطاب السَّردي، لرواية «ليالي ألف ليلة»؛ حيث فارق السارد المحفوظي «مخدع شهرزاد» الملكي وصراعه مع الزمن والموت، من أجل البقاء، في «ألف ليلة وليلة»؛ وانتقل بسـرده إلى واقعية محفوظ الفنية، ليرصد عالمًا مغايرًا للعالم الشهرزادي؛ هو عالم «مقهى الأمراء»، الرامز للوطن الحاضن، لشعب شهريار، الذي يعاني من العبث الاجتماعي والسياسي، بفئاته المختلفة؛ السادة والعامة، الغني والفقير، المتعلم والأمي؛ لذا فهو مقهى/ وطن «يفتح مدخله على الطريق العام «بخاصته»، وتطل نوافذه على حواري جانبيه» يقطنها العامة البسطاء، ورغم هذا التلاحم الرمزي المتجلي في مقهى الأمراء/الوطن، غير أن شعبها (خاصة وعامة) مغيب، بما يقدم إليه من «أجود أنواع المنزول والحشيش»؛ حتى تحول إلى شعب مستقبل فحسب، لعفو هذه السلطة الشهريارية، «أفاقوا ليلتهم من خوف متسلط واطمأن كل أب لعذراء جميلة فوعده النوم بأحلام تخلو من الأشباح المخيفة…»(57).
ورغم هذا التغييب/المنزول والحشيش، الرامز إلى ضعف الإرادة الشعبية في مواجهة السلطة/شهريار، فإن النص المحفوظي، قد انتصر لهذه الإرادة الشعبية، المتمثلة في مقهى الأمراء/الوطن/الشعب/المدينة/ الحي، حيث جعلها السارد تقوى بتصاعد الأحداث، إلى أن نمت هذه الإرادة الشعبية، وفرضت قرارها، باختيار حاكمها (معروف الإسكافي)، ومن ثم بقى المقهى /الشعب / الوطن، ورحل شهريار.
وجدير بالملاحظة أن سارد محفوظ، قد وصف «قهوة الأمراء»(58) الوطن/الشعب بدقة، ليبرز مدى العبثية التى يعيشها هذا الشعب، في ظل سياسة شهريار، الذي يقطن في (القصر الرابض فوق الجبل)(59)، منعزلاً عن شعبه، فهو مرسل للعفو فقط والشعب المغيب يستقبل، وهو ما جعل بنية المكان، في «ليالي ألف ليلة» تتجلى في هيئة ثنائية ضدية، (المقهى/الشعب/الوطن/المدينة/الحي/الإرادة الشعبية/ العدل)، في مقابل (القصر الرابض فوق الجبل/النطع/ السراي/السجون/الملك/الاستبداد)؛ حيث لم يصف السارد قصر الملك، في حين وصف المقهى بدقة، ليؤكد دلالة انتقال مركز السلطة من الفرد الحاكم/شهريار/القصر، إلى الشعب/الإرادة/المقهى/المدينة؛ وهو ما انتهى إليه الخطاب السردي لليالي ألف ليلة.
على أن هذه المفارقة المكانية، في النص المحفوظي، بين القصـر/السلطة، ومقهى الأمراء/الشعب، لم تكن لتصل إلى تحقيق العدل، إلا بالمنحى الصوفي/الدين، الذي تجسد في بيت قطب الصوفية الشيخ عبدالله البلخي، حيث (يقيم في دار بسيطة بالحي القديم)(60). وفي (ما وراء الخلاء عند النهر على كثب من اللسان الأخضر الممتد في عرض النهر). فهي دار بسيطة تحمل المعرفة الأصيلة، التى لا تطمع في سلطة، وهدفها يكمن في الوصول إلى اللسان الأخضر الممتد في عرض النهر؛ للتطهر من آثام هذه السلطة، والعودة إلى المدينة/العدل / الخير.
وعلى ما سبق؛ فإن نص «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ، استطاع أن يتفاعل نصيًّا مع التراث الشهرزادي في «ألف ليلة وليلة»، من حيث القصة الإطار، وغيرها من حكايات شهرزاد، مثل حكاية «السندباد، وعبدالله البري والبحري، ومعروف الإسكافي، وطاقية الاخفاء، … وغيرها». وهو تفاعل أفاد النص المحفوظي بدلالاته النصية الجديدة، في رصد عبثية الواقع الاجتماعية والسياسية، من خلال مغايرة نصية على صعيد الشخصيات، والخوارق، وبنية المكان. وكلها تفاعلات نصية أكدت قدرة نص “ألف ليلة وليلة”– كنص تراثى متجدد- على الصمود، رغم تقدم أدوات النقد والإبداع.
(56) جمال الغيطاني – نجيب محفوظ يتذكر – ص88.
(57) نجيب محفوظ – ليالي ألف ليلة – ص10.
(58) انظر نفسه -ص 10.
(59) نفسه – ص7.
(60) نفسه – ص7.
الحلقات السابقة من الدراسة