حنان عبد القادر
اللوحة: الفنان العراقي جميل حمودي
في هذه المقالات تتناول الشاعرة والكاتبة حنان عبد القادر شخصية الدكتور الطاهر مكي «عميد الأدب الأندلسي»، وتتبع أهم المحطات التي شكلت توجهاته العلمية، وتبرز الطاهر الإنسان القادم من قرية في صعيد مصر إلى رحاب العالمية، وفي هذه المقالة تتوقف الكاتبة عند آرائه ومواقفه من بعض القضايا الثقافية والاجتماعية.
تناولنا في مقالات سابقة رحلة الطاهر مكي في رحاب الأدب الأندلسي، وتعلقه بابن حزم ووقوفه على خبايا فكره وفلسفته، وجهوده في ضبط مخطوطته «طوق الحمامة»، وفي هذه المقالة نستعرض بعض آرائه ومواقفه من بعض القضايا الثقافية والاجتماعية، بداية من آرائه في الشعر الحديث، مروراً بآرائه حول الأدب في مصر وصولاً إلى مواقفه من قضايا المرأة.
مكي وقصيدة النثر
يتلخص رأي الطاهر مكي بقصيدة النثر وما شابهها في الأدب الحديث في قوله:
إذا كنت أرفض شعر التفعيلة فكيف أقبل قصيدة النثر؟، قصيدة النثر! عنوان يناقض نفسه، يهدم آخره أوله، وهما لفظان متناقضان معنى، فكلمة نثر مناقضة لقصيدة، فأن يقال قصيدة نثر، فهذا كلام غير مفهوم، وهذه القضية جديدة.
أنا أؤمن باحترام المصطلح، فلماذا نسرق مصطلحاً ليس مصطلحنا ونستخدمه لشيء مغاير؟، الشعر الحر أدب، ما في ذلك شك، وبعضه أدب رائع، لكن المشكلة في أن بعض أبنائنا تصوروا أن الشعر أفضل من النثر، وأن الأدب هو الشعر فقط، فنجد من الأدباء الشبان من لا يستطيعون النبوغ في النثر فيتجهون إلى الشعر، لكنهم لا يستطيعون أن ينظموا قصيدة بقواعدها المتعارف عليها، فيكتبون أي شئ ويطلقون عليه قصيدة نثر، وهذا ليس صحيحاً، فالنثر أيضا لون عظيم من الأدب، وقد يكون الناثر أعظم من أي شاعر، فالجاحظ مثلاً ليس أقل شهرة من المتنبي، والمعري في نثره ليس أقل خلوداً من المعري في شعره، وإذا كان ديوان شوقي طبع عشر مرات، أو خمس عشرة مرات، فإن كتب المنفلوطي تجاوز طبعها الخمسين.
إذاً كل من يريد أن يكتب فليكتب بالطريقة التي يعبر بها عن نفسه، فأنا احترم حرية الفكر بلا حدود، وكل انسان من حقه أن يعبر عن ذاته باللغة التي يريدها، لكن يبقى المصطلح مصطلحاً، الشعر له وضع وله قواعد، وله أوزان، من يكتب فيها شاعراً، ومن ليس يكتب فيها أديباً، فما الضير في ذلك؟
الأندلسيون كانوا أذكى، عندما أحسوا أن الغناء يتطلب قوافي أرحب وأكثر تعدداً، عددوا القوافي، لكنهم لم يقولوا عنه: الشعر الحر، ولا الشعر متعدد القوافي، سموه الموشحات، وعندما بدأ بعض الناس الذين لا يجيدون العربية، يطالبون بكلمات مفهومة للأغاني، كتبوا الموشحة باللغة العامية، ولكن لم يقولوا: موشحات باللغة العامية، سموها زجلاً، فنحن لدينا شعر، ولدينا زجل، ولدينا موشح، وأعظم زجال في الأندلس، هو ابن قزمان الذي قال: حاولت أن أكون شاعراً، فلم أجد لي مكاناً بين الشعراء، وحاولت أن أكون وشاحاً فلم أجد لي مكاناً بين الوشاحين، فقلت الزجل، فذاعت شهرتي، فأنا زجال.
إذاً من حق كل إنسان أن يكتب ما يشاء، وأن يكتب ما يريد، وأن يكتب على النمط الذي يريده، ولكن ليس من حقه أن يسرق مصطلحاً لا ينطبق على ما يقول، الفروق الجوهرية بين أي أدب وآخر تعود إلى المبدع نفسه؛ لأن الأدب انطباع، والانطباعات تتباين وتتفاوت، و ثمة فروق بين طبائع المبدعين وأمزجتهم، والظروف التي يكتبون فيها.
الشاعرة الوحيدة التي كتبت كلاماً علمياً في هذا، كانت نازك الملائكة رحمها الله، ولكنها عادت في آخر كتاباتها وقالت: “يبقى مصطلح الشعر للشعر القديم، أما الشعر الحر فمكانه المسرح، لأنه يعطي حرية الخروج عن العروض، وعن القافية.”
الشعر له حدود وتعاريف ومعالم، والخروج عليها باسم الشعر الحر أو قصيدة النثر مرفوض، ومآل كل هذا الكلام إلى النسيان.
تردي الأدب في مصر
يرى مكي أن الأدب في مصر يعاني ترديا كبيرا، فيقول: “تراجعت فى مصر أشياء كثيرة ومنها الأدب، إن الإنسان ثمرة التكوين والتربية والمناخ، وفى غياب الأصيل، تسود البضاعة الفاسدة، ولكي تظهر شخصية أدبية عظيمة لابد أن تتغذى غذاءً جيداً، فإذا كان الغذاء ملوثا يأتي الناتج ملوثا.
هناك هيئات كثيرة تشجع هذا التلوث، لا تريد فكراً قوياً، وإنما تريد أنصاف المثقفين الذين يشترون بمبالغ زهيدة، العظام الذين سبقوا الثورة، ونقتدي بهم ونراهم، تكونوا على ثقافة حقيقية فى مناخ ديمقراطي أو بمعنى آخر: لم يكن الأدب مؤمما، فإذا أردنا أن ننهض ونستعيد مكانتنا، يجب عمل الأتي:
– ثقافة حقيقية يتربى عليها الأديب.
– طموحات عظمى يحلم بها الأديب.
– مناخ ديمقراطي يسمح له بأن يعبر عن هذه الطموحات الكبرى فيجيء تعبيره يمثل الطموح الذي يصبو إليه
ومن مظاهر الديمقراطية التى نفتقدها حرية تكوين الأحزاب، كما أن الجمعيات الأهلية تعانى من التضييق ومن الرقابة وقبل ذلك كله وبعد، لا يمكن أن تنهض فى ظل الأحكام العرفية ونحن منذ عام 1981م نعيش الأحكام العرفية.
ولابد أن يتوازى مع النهضة العملية والأدبية، بعث التراث القديم وتحقيقه، وتحقيق التراث يحتاج إلى ثقافة عربية أصيلة، عميقة وواسعة نفتقدها الآن تماما، وقد أفرزت مصر مدرسة تحقيق قديماً، عدد لا بأس به من الأساتذة: مصريون وعرب تربوا فى مصر، ولكن أصابها ما أصاب.
ويأتي طغيان العامية على الفصحى بمؤشر خطر، حين تكتب كبرى صحفنا بالعامية، فذلك يعني أشياء كثيرة، وحين تقدم الجوائز لمن يكتب بالعامية، ويُعترف بها فذلك يعني أننا ننفذ ما دعا إليه الاستعمار البريطاني في بدء حياته في مصر: أن سبب تخلف مصر هو اتخاذها الفصحى وسيلة للتعبير والتعليم، وأن الطريق إلى نهضتها أن تتخذ العامية وسيلة، إن المؤامرة واسعة وكبيرة وخطيرة، وتزداد كل يوم اتساعا.
أتمنى من كل محب لوطنه، ومحب للغة العربية، أن يتمسك بالجدية والفصحى، وبكل ما هو رفيع في الإبداع وألا تخدعه طبول الدعاية الجوفاء؛ لأنها صخب كاذب، سوف تذروه الرياح “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”.
إلغاء وزارة الثقافة
يرى مكي أن الساحة الأدبية العربية تخلو من الكتب التي تستحق القراءة، وأن وزارة الثقافة المصرية لم تساهم في الإرتقاء بثقافة الشعب، والمجتمع المصري بحاجة لمثقفين يلتزمون بمواقفهم، يقول:
لسنا في حاجة إلى وزارة للثقافة، بل إلى دعم الثقافة وهو أمر لا يحتاج إلى وزير، في مصر قبل وجود الوزارة كان يصدر بها عدد كبير من المجلات تحظى بمتابعة عظيمة من القراء، أما الآن فوزارة الثقافة تصدر حوالي خمس عشرة مجلة لا يقرؤها أحد، ولذلك أرى أن الطريق للارتقاء بالثقافة أن نستغني عن وزارة تخصها، هي وزارة موظفين، والبلدان الراقية ليس بها وزارات للثقافة.
إن الذين يديرون الثقافة الآن أنصاف أميين، والذين لديهم قدر منها مبعدون، أو هم أنفسهم ابتعدوا عنها حفاظا على كرامتهم، الإصلاح الجزئي عبث، ولا يمكن أن ينتهي بنا إلى إنجاز، حين يصلح الأمر كله، سوف تصلح الثقافة بكل روافدها وتصلح معها الترجمة، وتحقيق التراث، وحال الصحف والمجلات التي ليس لها عائد مادي ولا ثقافي، وتكلف الدولة نفقات باهظة، وتذهب إلى جيوب الفاسدين.
إن إصلاح أمر الثقافة بعد التردي الذي انتهت إليه أصبح عبئا ثقيلا، وهي أكبر من أن تكون مهمة فرد،إذا أردنا بعثها والنهوض بها فلا مفر من العودة بها إلى ما كانت عليه قبل 1952، والطريق إلى إنقاذ الثقافة لن يكون إلا بإلغاء وزارة الثقافة، وتحريرها من الشللية والتبعية والأرزقية والعودة بها إلى المنظمات الأهلية.
والمتفقد لواقعنا الثقافي على امتداد القرن العشرين، بكل قممه الثقافية التي أثرت في نتاجه ورقيه وبناء شخصيته، سيعلم جيدا أن ازدهار الثقافة لم يتوقف على وجود هيئة رسميه؛ لأن الهيئات التي كانت تعنى بها هيئات غير رسمية لا صلة لها بالحكومة.
رؤيته لقضايا المرأة
أكمل مكي دراسته في إسبانيا، وكان طالبا نابها نهما، حصل على الدكتوراه في الأدب والفلسفة بتقدير ممتاز من كلية الآداب في الجامعة المركزية بمدريد بإسبانيا عام 1961، ذات يوم طلبه مدير العلاقات الثقافية هناك، وأخبره أنهم في حاجة إلى من يحاضر في جامعة بوغوتا الكولومبية، وجامعة الجيزويت عن الحضارة الإسلامية، فذهب بمرتب مستشار في السفارة، وقضى عدة سنوات أستاذًا زائرًا، تعرف فيها إلى الأدب المكتوب بالإسبانية في أمريكا اللاتينية، واكتشف كثيرا من أفكارهم تجاه الشرق المسلم، وكيف يفكرون تحديدا في العلاقات التي تربط الرجل بالمرأة، وما الحقوق التي تنالها في ظل هذه النظم، يقول في ذلك:
“دعاني عميد كلية الآداب في جامعة جيزويت لمحاضرة لإلقاء محاضرة، فاستأذنت طالبة في سؤال شخصي قلت لها: بكل بساطة، قالت لي: كم امرأة متزوج؟ قلت لها: كم امرأة تعتقدين يا بنتي؟ قالت لي: من خمسين أو ستين؟ ضحكتُ، وقلت لها: أنا لم أتزوج بعد، وهل تسمحين لي في الوقت نفسه أن أسألك السؤال نفسه، قالت طبعاً، قلت لها: كم رجلاً تتزوجين؟ فقالت لي: أنا لم أتزوج بعد، قلت لها: من يقول لك أن الرجل المسلم يتزوج الخمسين والستين امرأة، يقول لنا أن المرأة عندكم تتزوج عشرين وثلاثين رجلاً، يكذبون عليكم، ويكذبون علينا.
وتبين لي أن السلاح الذي يستخدم ضدنا، هو الضغط على قضية المرأة، فالمرأة في العالم العربي والإسلامي غير متعلمة، وغير مثقفة، ليس لها حقوق، فوضعت في اعتباري أنه علينا أن نجلو صورة واقع المرأة عندنا.”
عاد مكي من بعثته إلى القاهرة تشغله قضية تعليم المرأة وتثقيفها، وظل لسنوات يفكر في مصائر فتيات الصعيد اللائي يحرمن من مواصلة التعليم الجامعي؛ بسبب التقاليد وبعد المسافة بينهن وبين جامعات العلم والنور في القاهرة وغيرها من المحافظات.
ومنذ السبعينيات بدأ الطاهر مكي يكتب بإلحاح في الصحف والمجلات مطالبًا بإنشاء فرع لجامعة أسيوط بقنا، ولم يكن أحد يعتقد بجدوى ما يكتب، لكن همته لم تفتر وعريكته لم تلن، وكانت تربطه مع الدكتور إسماعيل معتوق (عضو المجلس النيابي بعد الثورة والمترجم الشخصي للرئيس عبدالناصر) في ذلك الوقت علاقات وطيدة، فأقنعه بضرورة مطالبة الدولة بإنشاء فرع للجامعة في قنا (والذي كان نواة لإنشاء جامعة جنوب الوادي فيما بعد)، وبذل الاثنان محاولات مستميته، لكن معتوق وافته المنية دون أن يتحقق الحلم، وفي عام 1995م، تحقّق هذا الحلم حين صدر القرار الجمهوري بإنشاء جامعة جنوب الوادي التي كانت أحد فروع جامعة أسيوط، والتي تحولت الآن إلى أربعة جامعات “الأقصر – أسوان –قنا – البحر الأحمر”.
تلك الجامعة التي نادى مكي بإنشائها، تخرج منها أكثر من نصف مليون طالب وطالبة، في وقت لم تكن الطالبات يستطعن السفر إلى القاهرة أوأسيوط؛ ولولا وجود الجامعة بقنا لحرمن من مواصلة تعليمهن.
يقول الدكتور محمد أبو الفضل بدران:”كلنا في الجامعة مدينون لهذا الرجل.. عندما أرى نصف مليون من الشباب تخرّج من جامعة جنوب الوادى مذ كانت فرعا لجامعة أسيوط أوقن أن هذه هي الصدقة الجارية والعلم الصالح الذى ينتفع به، وأن أبي عندما قال له “لا تنسنا من دعائك” كان فى قلبه أن “العلماء ورثة الأنبياء”، وهو لا يعرف أني اتخذته قدوة لي منذ أن قرأته، عندما أتصفح ما كتب أوقن أن هذا الرجل قد جاء فى زمن ليأخذ أمثالنا إلى العلم.”
في المقال القادم تتوقف الكاتبة عند التوجهات السياسية للطاهر مكي وبعضاً من مواقفه في هذا الجانب.
المقالات السابقة: