الرجل الدنجوان

الرجل الدنجوان

فردوس عبد الرحمن

اللوحة: الفنانة البولندية تمارا دي ليمبيكا 

ارتعش من الرأس إلى القدم، فيرتعش بطن الأرض تحت جسدك، ويمنحك أزيزًا ممتعًا، يمنحك قدرة على الانتظار لمواليد لا نهائية.. لن تكون وحيدًا بعد الآن، لن تكون.

قلنا من قبل.. إن الإنسان لابد له أن يتمثل كل موجودات الحياة حتى يستوي وينضج ويمتليء بها، و إن كان الزمن الذي تحيا به الأرض من ضمن تلك الموجودات فلابد له أن يتمثله، في الزمن يكون وجودنا، تلك العلامات الزمنية التي يعيش تحتها وفيها من نهار وليل وساعات، من أيام وشهور وسنوات عاش بداخلها وارتبطت الأحداث والأفعال بها.. نعم فحتى الماضي لابد لنا أن نتمثله بكل أحداثه، وإن لم يحدث هذا أصبحنا منفصلين عن الحياة، عن إيقاعها والذي يشكله الزمن.

الامتلاء بالحياة هو الامتلاء بالزمن وبما أن الكون الذي نعيش فيه له إيقاعه الزمني فلابد للإنسان أيضاً أن يكون بداخله ذلك الإيقاع.

ماذا يحدث لو فقد العالم إيقاعه الزمني؟ لو لم تشرق الشمس في موعدها وتغرب في موعدها ويكون هناك صبح وظهر وعصر ومغرب وليل.. أعتقد أنه سوف يختل ميزانه، سوف تتفكك أحداثه ويكون من المستحيل الإمساك بها.

 كنت لوقت قريب وقبل التحام العلامات الزمنية بداخلي أنقبض جداً ساعة الغروب وكأنها تفاجئني كل يوم وكأنني لا أعرفها. ساعة الغروب ظلت تخيفني منذ طفولتي ولم أألفها أبدًا حتى كبرت.. في ديواني الأخير عندما أردت أن أطمئن ابنتي مما يخيفها قلت لها: ” فجأة سيومض الغروب دون أن تمس قلبِكِ أصابعه الزرقاء.. لأن برتقالاً ينمو في يدي وسلاما في قلبي” هكذا لا يحدث السلام الداخلي لدى الإنسان إلاّ بالالتحام بالعلامات الزمنية، لايحدث النماء والنضج النفسي بغير الاتصال بها وألفتها، فالإنسان إن لم يصبح له إيقاعه الزمني الخاص يصبح مفككاً وتتلاشى معالمه حيث تتناثر لحظاته الزمنية ويكون من المستحيل عليه أيضًا الإمساك بها.. إنه لا ينمو إلاّ بتلك اللحظات التي يعيشها بشكل متصل، إلاّ بتلك الحوادث والأفعال التي يشهدها ويقوم بها داخل الزمن، وعبر اتصالها وتراكمها بداخله يحدث له ذلك النمو والنضج وتصبح له حدود وملامح يتعرف بها على نفسه، يقول لاشولي: “إن لم تتضح معالم الإنسان وملامحه يظل مغترباً عن نفسه، منفيًا خارج ذاته وهذا هو الانفصال بعينه”.. يرى (لاشولي) أن المحدد الرئيسي للشخص هو هويته أي تطابقه مع ذاته، أما وحدته النفسية عبر جل مراحل حياته فهي الضامن الوحيد لهذه الهوية، لأنها نتاج آليات ربط، وهي آليات نفسية تقوم بمهمة السهر على وحدة الشخص وتطابقه. أولها وحدة الطبع، أو السمة العامة للشخصية في مواقفها وردود فعلها تجاه الآخرين، والذاكرة هي الآلية الضرورية لربط حاضر الشخص بماضيه، أي ترابط الزمن لديه وانتظام إيقاعه بداخله، وسوف نرى في هذا الفصل.. كيف يعيش المتفككون زمنيا.ً

يبدأ الإيقاع الزمني داخل الإنسان بما يسمونه بالساعة البيولوجية، والتي لا يولد بها بالطبع، بل يكتسبها تدريجياً من الحياة، من الإيقاع الزمني للآخرين.. فالرضيع في أول أيام مولده لا تكون لديه تلك الساعة البيولوجية، ليس لديه زمن معين لينام فيه أو يصحو أول يأكل أو يقضي حاجته، وهكذا.. تشكو جميع الأمهات في الشهور الأولى لمولد رضيعها من السهر حتى الصباح، من ارتباك إيقاعها الزمني بسبب صغيرها لجميل. عندما نفقد إيقاعنا الزمني، نعيش حالة من السيولة، ويفقد وجودنا معناه لأننا لانشعر بالوجود إلا من خلال الزمن. وهكذا، فارتباك الساعة البيولوجية داخلنا، يفاجئنا بالأشياء وكأننا نراها لأول مرة. هكذا كان الغروب يفاجئني في كل مرة، ويملأني بالرعب كشيء غريب وغامض. 

عندما يسكننا الزمن، يصبح وعينا به أكثر عمقًا. فنعرف كيف نمسك بماضيا لئلا يصبح وجودنا مثقوبًا، وكيف نصله بحاضرنا لنمتليء، وكيف نتوقع به مستقبلنا. إنها الذاكرة..فكلما ترابطت، استطاعت أن تصل تلك اللحظات بعضها ببعض. وكلما استقر الزمن داخل الإنسان، كلما اتزن إيقاع الحياة فيه. حتى ذلك الزمن الذي لم يعشه بعد أي مستقبله. فالحيوانات كائنات بلا تاريخ لذلك هي لا تدرك المعاني ولا تنبني بداخلها القيم.. أما الإنسان فترابط الأحداث الزمنية لديه هو ما يعطيه الخبرة ويشكل معاني الحياة لديه بما فيها من قدرة على الحذر وقدرة على التوقع، وقدرة على معرفة أخطائه، وقدرة على تلافيهان وحيث تكرار الأخطاء يدل تفكك الزمن داخلنا، فأن يمسك شخص ما بسلك كهربي عار معناه ألاَّ يفعل ذلك ثانية، فتلك اللحظة التي أمسك فيها بالسلك العاري قد ارتبطت باللحظة الأخرى التي أتت بعدها ولو حتى بعد سنوات لتذكره ألاَّ يفعلها ثانية، وهذا ينطبق على كل ما يحدثه الإنسان في نفسه.. تصرفه في ماله، سلوكه في العمل، وقوعه في الحب،علاقاته الإنسانية، كذلك القيم لا تنبني إلاَّ بذلك التماسك والترابط بين المعاني التي يكونها عبر الأحداث الزمنية، وأحسب أن المنفصلين عن الزمن ليست لديهم قيم حقيقية يعيشون بها على الأرض.

هناك الكثير والكثير مما يقال عن الزمن، وما يفعله في حياتنا، لكنني أشير فقط إلى بعض الخبرات الإنسانية التي استقيتها من البشر، ومن نفسي، ومما قرأت وتعلمت، لذلك سوف أورد هنا قصة وقفت على تفاصيلها، لأكون أكثر وضوحًا فيما أتكلم عنه، حول التفكك الزمني لدى الإنسان، وكيف يؤدي إلى تكرار الأخطاء، وتوقف النمو النفسي. إننا الآن أمام رجل أعمال صغير، يتورط مع سكرتيرته الحالية، نفس الورطة التي وقع فيها مع سكرتيرته السابقة، ويصل إلى نفس النتيجة ..حمل غير شرعي، يفرض على كل منهما أن تبدأ حياتها بتجربه إجهاض أليمة.. كان هذا الرجل الدنجوان، يشعر بالظلم لأن ابنته لا تشعر بأبوته مع أنه هو الذي تركها لست سنوات بعد انفصاله عن زوجته الأولى، ست سنوات لا يراها ولا ينفق عليها، ومع ذلك هو مندهش، ويتساءل، لماذا ترفضني ابنتي؟ وسوف نرى من خلال روايته عن نفسه كيف أن أحاسيس الذنب لديه تتحول إلى شعور دائم بظلم الآخرين له، هذا الشعور النابع من نسيانه لكل ذنوبه وآثامه، وقد قصدت أن أذكر القصة بضمير المتكلم، أي على لسانه هو لنرى كيف أنه لا يحتفظ داخل وعيه بما يفعله بالآخرين، ومن ثَمَّ يكون شعوره بهذا الظلم.

هكذا تكلم الدنجوان: ” لكم أحسست بالفزع عندما أخبرتنى أنها حامل فى شهرها السادس.. تردد صوتها فى أذنى وكأنما يهزأ من الماضي كله. لم أكن أرغب في تكديس نفسي بكل تلك التجارب. لماذا تتحول رشرشات الفرح الى بركة من الدماء، الى جنين مجهض؟

لم أضربها على يدها.. هى التى كانت تريد أن تودع عذريتها بين يدىّ،كانت جاهزة تمامًا.. ماذا كان بوسعى أن أفعل وأنا أسمع هتافات من الجوع تصرخ في أعماقها .. لم أكن من البجاحة بحيث أستطيع صدّ هذا النداء. لم أكن أمكر بها حين ضممتها إلى صدري واخترقت جميع مشاعرها الأنثوية.. إنها سيدة النشوة التي يتوهّج بها جسدي، لكنها غدرت بى مرّتين.. حين لم تخبرنى أنها عذراء، وحين احتفظت بالجنين إلى أن بلغ شهره السادس.. كانت تريد أن تورطني في زيجة ليس لها في حياتى الآن محل من الإعراب.. نعم كنت وعدتها بالزواج ولكن ليس بهذه السرعة ولا بهذه الحتمية. يتلفّظ المرء بأشياء كثيرة في لحظاته الحميمية.. أمسكتْ علىّ تلك الكلمات وراحت تسجلها في ورقة بيضاء أسمتها زواجًا عرفيًا. وقّعتها لأثبت جدّيتى معها ولكنها حين فاجأتني بهذا الخبر “حامل في الشهر السادس” أحسست أنها تسخر مني تضربنى على قفاي ..لا، لن أستمر في هذا العطف الذي يسلبنى عمري ومستقبلي.. فعلتها مرة.. تركت ابنتى الأولى وهى في السابعة لأتزوج تحت هذا الضغط من سكرتيرتي السابقة.. فقدت بنوتها للأبد.. لن أفعلها ثانية، ولن أتخلّى عن أبنائى الصغار. لقد أرادت سكرتيرتي الحالية أن تشعل النار في حياتي، أن تحولها الى رماد ولكنني لن أستسلم.. أقنعتها بالإجهاض حتى نبدأ معًا حياة سوية دون مشاكل ولا منغصات.

فى الحقيقة لم أكن أكذب عليها تماما ولم أفكر حتى إن كنت أكذب أم لا.. كل ما فكرت به ساعتها أنني أقف على حافة الهاوية ولابد لي من حركة بارعة لإنقاذ نفسى وحياتى كليها… كانت حركة بارعة بالفعل ولقد نجوت.”.

من يسمع كلام الدنجوان عن نفسه، يظن أنه بريء وعاطفي حتى يصبح ضحية نساءه، لكن تلك هى الخدعة التي يعيش فيها ويصدقها، ويصدرها لكل امرأة. وبهذه الطريقة هى تصدقه أيضًا، ثم نساء جاهزات لأن يقعن في الفخاخ دائمًا، هو يعرف ذلك، هكذا يكون الأمر.. هذا النوع من الشخصيات لا يمكن أن يتذكر تفاصيل الأحداث الحقيقية أثناء حكيه أو حتى حديثه لنفسه، فتلك التفاصيل تقع من ذاكرته تمامًا بما أنها أحداث وقعت في لحظات زمنية انتهت، وهو من التفكك الزمني الذي لا يسمح له بربط تلك الأحداث الزمنية ببعضها البعض، هكذا يكرر خطاياه، ويكرر ندمه عليها. ومع ذلك هو قادر على التعبير بشكل جيد.. هذا النوع من الشخصيات كما يقول معلمي الروحي.. يعوض تفككه الشخصي بلغة قوية ومحكمة، بمنطق ليس به أي ثغرات وهو عن طريق هذه اللغة يحول ببساطة تلك الأخطاء التي يكررها إلى خديعة كبرى دبرتها له الفتاة الأخيرة، مع أنه مرَّ بنفس التجربة مع سكرتيرته السابقة. إن هذا الوعي الزمني المفكك لا يستطيع تحمل مسئولية ما يفعله.. إنه وعي هش يعيش بالجانب الآخر منه وهو (اللاوعي) يسميه المعلم الروحي بالوجود المقلوب.. إن الإنسان العادي يعيش في الدنيا بوعيه وليس بلا وعيه، الوعي هو الذي يحيط بمكنونات وخفايا نفسه فيكبح ويكبت منها ما لا يناسب الواقع، أما في حالة الدنجوان، فالعكس هو الصحيح، إنه يعيش في الحياة بلا وعيه، يعيش بالمكنونات والخفايا دون قدرة على كبحها أو كبتها وبالتالي يعيش بلا مسئولية تجاه الآخرين، إنه يحيا اللحظة ناسيًا ما قبلها وما بعدها. وبالرغم من أن هذا يعطي الانسان شعورًا بالفرحة نقيًا خالصًا إلاّ أنه يتحول إلى كارثة إذا ما استمرت الحياة على هذا المنوال دون تبعات ومسئوليات، ولكن، مالذي يدفع الإنسان إلى العيش بهذه الطريقة؟

 يقول تيري إيجلتون: ” التلذذ المحموم بالاستمتاع باللحظة وإمتاع النفس والاحتفال بتناول نخب إضافي والعيش وكأن الغد لن يأتي، إنما هو استراتيجية بائسة للتحايل على الموت، تسعى بلا جدوى لخداعه وليس فهمه وهي تضفي جلالاً على الموت الذي تحاول إنكاره.. إنها رؤية تشاؤمية” وكلام تيري ايجلتون عن الموت، لايتعارض مع كلام معلمي الروحي بأنها حالة من تفكك الزمني، حيث يقول: ” غاية التفكك هو الموت ومسعاه دائمًا نحو الموت”

هذا النوع المفكك (الدنجوان) يكون شديد الجاذبية بالنسبة للنساء اللاتي يعشن بلاوعي مثله. صاحبات الوعي المطموس لا يعرفن شيئًا عن ذواتهن، والرجل الدنجوان يستطيع أن يخاطب دواخلهن “بلاوعيه” النشط والحاضر دائمًا. طوال الوقت يبعث برسائل من لاوعيه، تسقط مباشرة في لاوعيهن، فيلبينها سريعا، وهكذا، فإن ما تسميه جاذبية لشخص ما، هي تحريك شئ بداخلك لا تعرفه. لذلك فهذا الدنجوان لا يعدم الحيلة أبدًا للإيقاع بفريسته، تلك الفريسة التي هي جاهزة من الداخل للوقوع.

 أيضًا هو ممتص لوجود الآخرين، ملتهم لذواتهم دون شعور بالشبع من جانبه فيظل وحيدًا يشكو الموات إن لم يجد شخصًا آخر جاهزًا للالتهام، لذلك لا يكف الدنجوان أبدًا عن البحث عن فريسة جاهزة للالتهام فتتعدد غرامياته مهما كلفه ذلك من خسائر لا تحملها ذاكرته فيظل يخسر ويخسر. المتفككون زمنياً لا يستطيعون البناء لأنهم بلا زمن. 

للانفصال عن الزمن أشكال وأسباب عدة.. فالنموذج الدنجواني سببه.. فقر شديد في التغذية النفسية سواء بشكل واقعي كهجر الأم له في طفولته كما يقول التحليل النفسي، أو بشكل نفسي كما في حالات أخرى لا تعيش الحياة ذاتها بل تعيش داخل إطار صورة تصنعها عن الحياة، فتحتجب التغذية الحقيقية التي يمتصها الإنسان من الوجود ثم يتمثلها لتصير بعضاً من لحمه ودمه وعظامه كما ذكرنا من قبل.

وليس بالضرورة أن كل من افتقر ذاتيًا وانفصل عن الزمن يصبح دنجواناً، فهناك المثاليون المرتفعون عن الأرض، وهناك المتضخمون أي الذين يعيشون صورًا متضخمة عن ذواتهم وعن العالم .. إن العيش داخل صورة.. أي صورة، معناه الانفصال عن الواقع، التفكك، أي مأساة تلك التي يعانيها أولئك الذين يعيشون في عالم من التصورات؟

ولكن.. هل نستطيع أن نعيش الواقع بلا تصورات؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s