اللوحة: الفنان الروسي قسطنطين كوروفين
يستذكر الدكتور سعيد شوارب في سلسلة من المقالات بعنوان «من حقيبة الذكريات» أيام الغزو العراقي للكويت، وكيف اضطر لمغادرة الأخيرة مع أفراد أسرته ككثير من المقيمين العرب الذين اضطروا لمغادرة الكويت إلى بلدانهم في ظروف صعبة.
لم تزل مدينة الناصرية شبه نائمة.. أول النهارالمبكر.. لا ترى من حركة فى الشوارع، إلا شخصًا هناك، أو عربة هنا.. انطلق “حيدر” بشاحنته وانطلقت معه المائتان وخمسون دينارًا ليتفاقم هزالُ ما تبقى لدينا من فلوس.. لا نزال فى أوائل الطريق إلى وطننا.. دلنا بعض المارة على ورشة لإصلاح السيارات لم تفتح بعد.. لم يصدق الرجل وهو يطلب مبلغا كبيرا لإصلاح عيب بسيط فى نظام التكييف أنه ليس معنا وفرة من المال المخبأ.. كل القادمين من الكويت محملون بما يفوق الخيال مما نهبوه من محلاتها وبيوتها وشركاتها المستباحة.. قال الرجل.. ليس العيب فى سيارتك هو ما أصلحناه الآن بربع الثمن.. لن تستطيعوا أبدا أن تكملوا الرحلة على هذا الوضع.. لا تسافر سيارة بهذا الحمل الثقيل من فوقها ومن تحتها.. بعد مسافة ليست طويلة ستنكسر منكم سيارتكم كسرا لا يُجبر.. لا بد من تخفيفه على سيارة أخرى.. دارت بنا الأرض، يوسف نوفل وعبد الستار ضيف، أما أنا فقد دارت بى الأرض مرتين وأنا أتابع دموع أسماء وذعرها من فكرة رمي ما أنقذته من شقة الكويت بالكاد من أشيائها العزيزة.. ليس إلا أن تتخلصوا من نصف حمولة السيارة على الأقل.. نستأجر سيارة نقل صغيرة تصاحبنا إلى مدينة “الرمادى”.. هل كان زميلنا فى الكويت نورى يس وهوعراقىّ من الرمادى، يقرأ من صحف الغيب عندما فرض علينا بالكويت عنوانه بالرمادى مع ما فرضه من معونة مالية؟.. يومها لم يكن أي خيال مسرف يطرح أمر الخروج من الكويت عبر العراق.. ذهب يوسف وعبد الستار وعادا بسيارة تصلح للفكرة.. لم يشأ الرجلان أن يصدمانى برقم الأجرة التى اتفقا عليها.. نقلنا إليها ما أمكن.. ليس من حل إلا أن يركب وائل شوارب ابنى ذو الأحد عشر عامًا فى كابينة السائق الذى لا نعرفه حتى يكون مع أغراضنا.. اتفقنا مع “طالب” السائق الجديد، أن يظل بسيارته بين سياراتنا لنطمئن.. انطلق الركب على طريق السفر السريع وقد صلينا الظهر بالناصرية.. لا تكاد تمضى ساعة حتى توقفنا نقاط السيطرة العسكرية للتفتيش عن أوراقنا الثبوتية.. حل المساء والتف الطريق بالظلام.. انحلت عرى ركبتى وضربتنى وأسماء فكرة اختفاء سيارة السائق “طالب” ومعه وائل فى طريق موحش وبلاد غريبة.. سعيد: لو انسرب الرجل فى غفلة إلى طريق جانبى لضاع وائل فى الظلام.. استعيذى بالله.. قلت لأسماء وأنا أشد حاجة إلى من يواسينى فى بلواي وخوفي على وائل.. ليست وسيلة للتشاور مع الدكتور يوسف أو الدكتور عبد الستار فى هذه الظروف المظلمة.. كنا قبل عصر الحل السحري “الموباي “.. لا يمكن بالليل أن تميز ظهر سيارة من سيارة.. سيارة وائل ليست بيننا على كل حال.. ما عرفت لحظات أشد هولا من هذه الليلة.. كيف وضعنا ابننا مع غريب لا نعرف بلده ولا أهله.. ماذا تجدي علينا أرقام سيارته والظروف حرب؟.. عايزة ابنى.. عايزة ابنى.. صوت أسماء وبكاء الأطفال هند وشيرين وغياب صوت أحمد المريض، يحيلنى سائقا بلا عقل.. يوسف نوفل على ضوء سيارتى يشير لي من بعيد للوقوف بكلتا يديه “وائل” و”طالب” أول السيارات وقوفًا.. تجمعت السيارات الأربع عند فتحة طريق تنحدر يسارا.. احتضنا وائل وبكينا كما لم نفعل من قبل حتى ثارت دهشته واستغراب طالب لهذه اللهفة المحترقة.. وائل مطمئن مبتسم يحكي لإخوته كرم الرجل معه فى الطريق وما قصه له عن أولاد له فى سن وائل.. تنفسنا أسماء وأنا هواء خالصا ما عرفناه منذ نزل الظلام.. قريتي هنا على بعد كيلومترات من الطريق.. تفضلوا لتستريحوا وتأخذوا واجبكم ثم ننطلق بعد أن أخبر أهلي أننى مسافر معكم إلى “الرمادى”.. أنا محتاج إلى أن أطمئنهم وأنتم محتاجون إلى شيء من الراحة.. تكلم الرجل مع السيارة العسكرية الضخمة التى سألته عنا ففهموا قصتنا وتركونا.. في الرجل شهامة عربية وإصرار، وفى سياراتنا اثنا عشر شخصا أهلكهم السفر وضربهم القلق ولم يروا حماما منذ خرجوا من الكويت هما أشق ما عرفنا من أيام.. لا بأس.. الرجل جاد فى دعوته ونحن قتلنا التعب الجاد.. تهامسنا ثم تبعنا الرجل في الطريق وسط الزراعات إلى قريته.. كأن أهله كانوا على انتظارنا، لم تأخذهم بالدهش زحمة المرهقين الضيوف.. ليس إلا وقت يسير حتى رتبوا للنساء والأطفال مكانا للاستحمام والوضوء والراحة وآخر للرجال.. البيت واسع تنتشر فيه صوركبيرة للإمام علي كرم الله وجهه وبعض أهل البيت.. الطعام واسع يمتد ناحيتين للرجال والنساء بينهما ساتر.. ماعرفنا بطيخا أجمل، ولا طعاما أشهى ولا وجوها أكرم من تلك الأسرة فى هذا البيت الريفى الصادق البساطة.. انطلقنا من جديد إلى “الرمادى” عاصمة الأنبار.. لم نكد نبدأ الطريق المتجه يمينا إلى المدينة حتى استوقفتنا مصفحة عسكرية تسأل عن تغيير وجهتنا عن الحدود مع الأردن، إلى مدينة داخلية كالرمادي.. لم يأخذوا كلام “طالب” هذه المرة.. عرفوا أننا نبحث عن عنوان زميلنا الدكتور نوري ياسين وأن ظروفنا لا تسمح بالسفرالآن ومعنا طفل اشتد به المرض وليس معنا مال.. تبعونا ليتأكدوا مما سمعوه من قصة نوري ياسين.. أعطوني العنوان وامشوا ورائي.. قال واحد من المخابرات متخذا سبيله إلى الرمادي.. هل هذا بيت الدكتور نوري ياسين.. نعم.. من وراء الباب أجابت زوجته بأنه ليس هنا.. قد يكون عند زوجته الأخرى، أو عند أمه.. وما عنوان زوجته؟.. لا أدري.. عنوان أمه هو كيت وكيت.. لم يؤذن للفجر بعد.. قادنا رجل المخابرات وراء سيارته المصفحة حتى بلغنا بيت أهل زميلنا الدكتور نوري ياسين.. لم أكن أدرى أن فى رجل المخابرات كل تلك الشهامة.. فتحت امرأة كبيرة باب البيت الواسع ففوجئت بخمس سيارات إحداها عسكرية تكمل الاصطفاف أمام الباب.. قلت لها نحن فلان وفلان زملاء الدكتور نوري فى الكويت.. ممكن نكلمه؟.. مرحبًا.. ولكنه غير موجود..
وللحديث بقية إن شاء الله
من حقيبة الذكريات – عشر دقائق ولكن!
من حقيبة الذكريات – قبل الانطلاق