د. جمال عبد الرحمن
اللوحة: «تسليم غرناطة» للفنان الإسباني فرانسيسكو براديا
يجد المؤرخ العربي في العادة راحة كبيرة في تبسيط أمر ما حدث في الأندلس: يقول – دون وثائق – إن أبا عبد الله الصغير (آخر ملوك الأندلس) خان الأمة وباع ضميره وسلّم البلاد لفيرناندو الثاني. هكذا سقطت غرناطة! ومعنى هذا أن مملكة غرناطة كانت في أوج قوتها حين حاصرها فيرناندو، وأنها كانت قادرة على المقاومة حتى فك الحصار عنها. هذا التبسيط المخلّ هو الخيانة بعينها، فهو يحول دون معرفة السبب الحقيقي للهزيمة. لهذا تتكرر هزائمنا على مر العصور.
تفسير هزائمنا بالحديث عن خيانة وعن بيع للقضية يتسبب بها خائن واحد، هذا معناه أننا نسير في الطريق الصحيح وأن لا شيء يحتاج إلى إصلاح!
الغريب أنك تجد المؤرخ الإسباني أكثر إنصافا للحقيقة التاريخية، وبالتالي أقل تقريعا لأبى عبد الله الصغير. الباحث الإسباني يعرض وضع غرناطة في تلك السنوات، ويؤكد أن الملك الصغير حاول إصلاح ما أفسده السابقون في داخل شبه جزيرة إيبريا وخارجها، ولم يكن بإمكانه صنع معجزات. إن اتفاقية تسليم غرناطة التي ترجمناها إلى اللغة العربية تؤكد أن ذلك الملك كان مفاوضا بارعا، ورغم وجود الترجمة فإن موقف المؤرخ العربي لم يتغير: حديث ممجوج عن خيانة وعن بيع القضية. كل هزائمنا – في زعمهم – يتسبب فيها خائن واحد، وهذا معناه أننا نسير في الطريق الصحيح وأن لا شيء يحتاج إلى إصلاح.
أستأذن القارئ في عرض موقف المثقف الإسباني حين تعرضت بلاده لهزيمة منكرة على يد الولايات المتحدة في عام 1898. لم يتحدث أحد عن خيانة هذا الجنرال أو ذاك، بل انصرفوا إلى البحث عن السبب الحقيقي الذي أدى إلى الهزيمة، وحاولوا إصلاح الوضع (دارسو الأدب يعرفون بالتأكيد ما يسمى بجيل ال 98).
الأمر الجديد في مجال البحث التأريخي هو أنهم يبحثون الآن عن السبب الحقيقي في نجاح المسلمين في غزو إسبانيا في وقت وجيز. يبحثون عن السبب استنادا إلى وثائق، بعد أن ظلوا زمانا يتحدثون عن خيانة الكونت خوليان.
وقفة لإعمال العقل
تعالوا نتصور وضع المسلمين في إسبانيا بعد استيلاء الملكين الكاثوليكيين على غرناطة. بعد عشر سنوات من تسلّم الحكم في غرناطة أصدر الملكان مرسوما يحظر الأديان كلها عدا المسيحية، وعلى المذهب الكاثوليكي بالتحديد، ومنحا المسلمين فرصة لمغادرة إسبانيا. من المسلمين من استطاع المغادرة، ومنهم من لم يستطع، لأسباب اقتصادية أو صحية أو إنسانية (كالمضطر للبقاء لمرافقة والدته المسنّة التي لا تستطيع السفر). واعتبارا من 1502 بدأت الفترة الموريسكية، أي تاريخ المسلمين الذين يمارسون المسيحية في الظاهر اتقاء لملاحقة محكمة التفتيش. بعد فترة استقر الوضع، وأصبح الموريسكي مصدر صراع بين النبلاء ومحكمة التفتيش. المحكمة تلاحقهم (لأسباب اقتصادية غالبا)، والنبلاء يدافعون عنهم (في الحقيقة كان النبلاء يدافعون عن مصالحهم الشخصية إذ إن الموريسكيين كانوا أصحاب حرف نادرة، وفلاحين مهرة، وأيدي عاملة رخيصة). لو أن السلطات المسيحية كانت تريد إعدامهم، فما الذي كان يمنعها؟ إن النبلاء قد ذهبوا في الدفاع عن الموريسكيين كل مذهب، لدرجة أن أحدهم بنى لهم مسجدا في أرضه، والآخر نصحهم بالتوجه إلى الفاتيكان، حيث البابا، لإبلاغه أن تعميدهم كان ضد اختيارهم الحر، وبالتالي فهم لا يخضعون لسلطة محكمة التفتيش (المحكمة لم يكن لها ولاية إلا على المسيحي الذي تلقى ماء التعميد، ومن هنا كان حرصها على تعميد اليهود والمسلمين حتى يكونوا خاضعين لسلطتها) في ذلك الجو كانت السفن التركية تنطلق من موانئ الجزائر فترسو في بلنسية ليلا ويتسلل إليها الموريسكيون لتعود بهم إلى الجزائر. لماذا ليلا؟ أليس لأن السلطات تحرص على الإبقاء على الموريسكيين حتى يزرعوا الأرض؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف تقدم السلطات على إعدام “آلاف” الموريسكيين؟ أفهم أن تكون هناك أحكام بالإعدام عددها محدود لتخويف الموريسكيين، أما إعدام الآلاف فليس من مصلحة السلطات المسيحية، ولا من مصلحة النبلاء، وليس من مصلحة محكمة التفتيش ذاتها لأنها حينئذ تفقد أهم مصدر من مصادر دخلها بعد طرد اليهود من إسبانيا.
عودة إلى اتفاقية تسليم غرناطة
وقّع أبو عبد الله الصغير اتفاقية تسليم غرناطة في نوفمبر عام 1491، وفى الثاني من يناير من عام 1492 (“لتاريخ الروم، ذمّهم الله تعالى”، كما تقول المخطوطات الموريسكية عادة) دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ، وأصبح مسلمو غرناطة من رعايا الملك فيرناندو. اعتبارا من ذلك التاريخ أصبح المسلمون خاضعين للائحة التي أشرنا إليها، “لائحة المدجنين”. كان من حق المسلم أن يصلى ويصوم ويتزوج ويبيع ويشترى وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية. استمر الوضع على ذلك الحال حتى عام 1502. في تلك الفترة كان المسيحيون في أوج قوتهم واعتزازهم بعقيدتهم الكاثوليكية (لاحظ أنه في ذلك العام وصل كولومبوس إلى أمريكا التي أصبحت كلها تقريبا تحت السيادة الإسبانية). رأى القساوسة آنذاك نشر العقيدة الكاثوليكية في العالم الجديد، وتساءل بعضهم عما إذا كان من الأولى تنصير المسلم. كانوا يرغبون في ذلك، لكن اتفاقية تسليم غرناطة كانت تمنعهم.
عام ١٥٠٢ بعد تسليم #غرناطة بعشر سنوات جمع الكاهن الكاثوليكي #ثيسنيروس أهالي قرية في مكان عام، وخيّرهم بين التعميد أو حرقهم أحياء، فلم يكن أمام #المسلمين إلا قبول #التعميد، حفاظا على حياتهم
حاول الأسقف تالابيرا الدخول بلطف في هذا الموضوع، وحصل بالفعل على نتائج وإن كانت ضئيلة. هذا الدخول البطيء في المسيحية لم يعجب ثيسنيروس الذي أقدم على فعلة خرقاء: جمع أهالي قرية في مكان عام، وخيّرهم بين قبول التعميد أو حرقهم أحياء، فلم يكن أمام المسلمين إلا قبول التعميد، حفاظا على حياتهم. كانت فعلة ثيسنيروس تشكل خرقا للقانون، وقد وضعت الدولة الإسبانية في مأزق: أحد كبار رجال الدين يخالف القانون وينقض اتفاقية وقّعها ملك البلاد. كان لابد من إيجاد مخرج، وكان المخرج هو مرسوم ملكي ينص صراحة على حظر ممارسة أي دين غير الدين المسيحي في إسبانيا. حدث ذلك عام 1502، وهو تاريخ تحوّل المدجنين إلى موريسكيين.
في الفترة بين عامي 1492- 1502 كان مسلمو غرناطة مدنين. لم يكن أحد يمنعهم من الصلاة ولا من ممارسة بقية شعائر الإسلام. كانت الحمية الدينية وراء الفعلة التي أقدم عليها ثيسنيروس (يقال إن خمسة آلاف مسلم اعتنقوا الكاثوليكية في ذلك اليوم)، وكان على الدولة الإسبانية أن تجد مخرجا لذلك التناقض بين التزامات الملك فيرناندو بمقتضى معاهدة غرناطة، وبين عمليات التنصير التي يمارسها ثيسنيروس. فصدر مرسوم ملكي في عام 1502 بحظر ممارسة أي دين غير المسيحية، وعلى المذهب الكاثوليكي بالتحديد. المرسوم يحمل في طياته مبررات صدوره، وكأنه يجيب على سؤال مفترض: لماذا نقض الملك فيرناندو معاهدة غرناطة؟ يقول المرسوم إن الملك – حرصا منه على مصلحة رعاياه من المسلمين – يريد أن يجنبهم طريق الضلال، وممارسة دينهم الذي يخالف العقيدة الكاثوليكية المقدسة. على أن المرسوم كان يسمح لمن لا يريد التنصر بمغادرة البلاد. اعتبار من ذلك التاريخ كان من الطبيعي أن تغلق المساجد، إن لم تحول إلى كنائس. ماذا يفعل المسلمون حينئذ؟ كان موقف الونشريسى واضحا: يجب على المسلم أن يخرج من الأرض التي يتغلب عليها النصارى. لكن الخروج من إسبانيا لم يكن سهلا دائما. ماذا يفعل الإنسان إذا كانت أمه قد جاوزت الثمانين ولا تستطيع السفر؟ هل يسافر ويتركها لمصيرها دون عائل؟ ماذا يفعل المريض؟ ثم كان هناك حب الوطن، وهو أمر لا يمكن إغفاله. إزاء تلك المعضلة كتب مسلمو غرناطة رسالة إلى أحمد بو جمعة مفتي وهران يستفتونه في أمرهم، وقد اجتهد الرجل، وأفتى بجواز أن يفعل المسلم كل ما تطلبه منه السلطات، أي أن يمارس التقية، فيكون مسيحيا في العلن ومسلما في الخفاء. اعتبارا من ذلك التاريخ، عام 1502، تبدأ الفترة الموريسكية التي أغفلها مؤرخونا بشكل يدعو إلى الأسف.
مسيحيون في العلن مسلمون في الخفاء
تلقى مسلمو غرناطة رسالة مفتي وهران بارتياح، وأقبلوا على حياتهم الجديدة: يذهبون لسماع الوعظ في الكنيسة صباحا، ويؤدون صلاة الظهر عندما يعودون إلى بيوتهم، ويؤدي شبابهم طقوس الزواج على يد القسيس، لكنهم لا يبنون بزوجاتهم إلا بعد حضور الفقيه وولى العروس وشاهدي عدل، يتلقى مواليدهم ماء التعميد في الصباح، لكنهم يذبحون الشياه ويؤدون سنة العقيقة في المساء. انقطعت أخبار العالم الإسلامي عنهم تقريبا، لكنهم كانوا يفرحون بانتصارات الأتراك إذا علموا بها. كان الأتراك يحاولون مساعدتهم، ولعبت الجزائر دورا فريدا في نصرة الموريسكيين، ويكفي أن نعلم أن حاكم الجزائر كانت له الكلمة العليا في بلنسية التي أصبحت فالنسيا.
صمت مؤرخونا إزاء تلك الفترة صمتا مطبقا (بعضهم له عذره في الصمت، فالوثائق كلها من الآن فصاعدا باللغة الإسبانية، وهي لغة لا يعرفها هذا البعض)، لكنهم حين تكلموا أصبحوا كمن سكت دهرا ونطق كفرا، لأن ما كتبوه ينم عن جهل كامل بالحقائق. أنت لا تستطيع الحديث عن قضية الموريسكيين إلا إذا فهمت عناصر المجتمع الإسباني آنذاك. ثم عليك أن تدرس تاريخ الدول الأوروبية وعلاقاتها بإسبانيا. علينا أن نقرأ ملفات محاكم التفتيش بعناية، لا من أجل إثبات جرائم السلطات الإسبانية فقط، بل لكي نعرف من خلالها أيضا طريقة الموريسكيين في تسيير حياتهم اليومية، وكيف احتفظوا بعقيدتهم الإسلامية ما يربو على قرن من الزمان دون مساعدة من أحد تقريبا. من الغريب أن نقرأ في الوثائق أن الموريسكيين، رحمهم الله تعالى، لم يكتفوا بممارسة شعائر الإسلام، بل دعوا بعض جيرانهم المسيحيين إلي الدخول في الإسلام. تحدثنا الوثائق عن راعى الغنم الموريسكي الذي كان يعلّم جاره المسيحي كيف يتوضأ ويصلى (تقول الوثيقة إن الاثنين ضبطا وهما يمارسان “جريمة الوضوء”).
هل الرواية العربية عن فتح الأندلس صحيحة؟