خالد جهاد
فنان متميز صنع لنفسه أسلوباً أقرب إلى الحكايات المصورة، والتي تجعل من يتابعها يشعر وكأنه يبحر في ذاكرة أرضٍ وشعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فيعتمد في قراءته وسرد أحداثه على رسمه لشخصياتٍ نسائية متعددة الأوجه والأحاسيس.. تأتي متوازيةً مع الدور المحوري الحاضر الغائب الذي تلعبه سوريا.. دور الأم والوطن الذي يلقي بظلاله على الخلفية الوجدانية والتاريخ الشخصي لكلٍ من بطلاته اللواتي يعيش معهن ومن خلالهن محنة الإنسان المركبة في الزمن الحالي وهو ما يميز لوحات الفنان السوري اسماعيل الحلو.
لوحاته أكبر من أن تكون مجرد حالةٍ فنية عابرة، بل يمكننا القول بأنها نوعٌ من الرصد والتوثيق لما يمر به البشر من خلال تعبيراتهم العاطفية التي تعتبر الأنثى خير سفيرٍ لتجسيدها بكافة وجوهها ومراحلها وحتى تناقضاتها وطبقاتها الاجتماعية التي تنتمي إليها، فليست كل الحالات التي يقدمها اسماعيل الحلو تعود لسيداتٍ ينتمين لنفس الخلفية الثقافية أو المرحلة العمرية لكنه استطاع أن يوظف تعابيرهن المرتسمة على وجوههن وتركيبتهن النفسية والجسدية لإيصال شعورٍ عام بالخوف والوحدة والتعب والملل وخيبة الأمل وعدم الثقة بالآخر التي يعيشها المواطن السوري في كل مكان ويعيشها معه ملايين البشر حول العالم، والتي يحاول التغلب عليها باستخدام البعد الروحاني الذي يغرق في التأمل ويتشبث بالأمل فيحلم بغدٍ أفضل، مستعيداً ذكريات الطفولة التي يتقاسمها مع الطيور وتشهد بها الحارات الشعبية والأزقة القديمة عبر بيوتها وطرقاتها وشرفاتها وأحجارها وأعمدة النور ذات الإضاءة الخافتة، وتحمل بداخلها توقاً إلى السعادة والحرية والأحباب، فيستدعيهم عبر رمزياتٍ بسيطة كإبريق الشاي وفناجين القهوة والبساط المصنوع من الحصير والنوافذ والأبواب المفتوحة التي تتوق لعودة من رحلوا عنا أياً كانت الأسباب.




تكرار نموذج الفتاة أو المرأة المنزوية وحافية القدمين يشير إلى حالة الضعف وقلة الحيلة التي تعيشها ويعيشها كثيرون على أكثر من صعيد مادي ونفسي وعاطفي، وتشير إلى غياب الأمان المرتبط بوجود الحبيب الذي لا نرى له أثراً كبيراً في لوحات الفنان اسماعيل الحلو، وكأنه مؤشر على أن الحرب التهمت الرجال والتهمت معهم كل شعورٍ ممكن بالحب والعاطفة التي باتت مجرد حلم ٍ في مخيلة الكثيرات وتركتهن أسيراتٍ للخوف والحرمان بكل أشكاله، كما نلمح أيضاً عبر ذلك الانزواء والأقدام العارية ذلك التخبط في الشعور بمراحل العمر بين الإحساس المبتور بطفولةٍ لم تكتمل، وشبابٍ لم تتفتح براعمه ولم يستطع أن يرى النور وسط ما يحيط به من مشكلاتٍ وأعباء، خاصةً عندما تكون محاطةً بقنديلٍ زيتي أو حقيبة سفر أو عندما تتواجد بجوار قاربٍ أو زورقٍ صغير ضمن أعماله، وكأن الاغتراب ببعديه الزماني والمكاني أصبح جزءاً من هوية الناس الجديدة، والتي يتساوى معها الحضور والغياب أو التواجد بين وطنٍ أو منفى أصبح مكانه الفعلي هو القلب قبل أي مكانٍ آخر، والذي يواسيه أحياناً أو يقاسمه شعوره بعض الطيور التي توحي للمتفرج بأن مصيرهما مشترك بين حبٍ أو صداقة أو حرية أو بقاء أو رحيل، كما أن التردد وحالة الحيرة بين ذكريات الماضي التي كبر عليها الكثيرون واتخاذ القرار بالمغادرة يخلق العديد من الصراعات مع الذات والبيئة المحيطة به، وحتى مع الزمن الذي يخاف من مقارنته بالأمس بكل ما حمله من قيم ومشاعر اختفى معظمها اليوم.




تتواجد الأسماك بشكلٍ كثيف في لوحات الفنان اسماعيل الحلو وكأنها تمثل (البقية الباقية) التي تتجه الأنظار صوبها بعينٍ من القلق والترقب والخوف من ضياعها، إذ أنها لا تعني الزاد والطعام بمعناه التقليدي بل تعني الكثير من الأحلام والمشاعر التي أصبحت هشة وغير مؤكدة ككل شيءٍ يحيط بنا ويجعلنا نفتقد إلى الشعور بالطمأنينة، وهو ما نلحظه في كثيرٍ من اللوحات التي تجلس فيها بطلتها أمام منزلها أو خارجه وكأن البيت بمفهومه الواسع وجدرانه الأربعة لم يعد مكاناً قادراً على احتواء الأشخاص وحمايتهم وتوفير ملاذٍ يتسع لهم ولأحبتهم، وهو ما نراه في نظرات أغلب الشخصيات الباحثة عن أمومةٍ ما تستطيع استيعابهم واستيعاب الطفولة واستيعاب وطنٍ جريح بكل تفاصيله التي تحكي عبر صمتها الكثير والكثير، وتقدم الأجزاء غير المكتملة في حكايتها عبر نماذج لا تحمل وجوهاً واضحة أو تماثيل مبتورة الأطراف وكأن الواقع بتر الإنسان من الداخل والخارج وجعله يعيش في دوامةٍ مستمرة لا يعرف كيف يخرج منها وسط هذه الحالة الاغترابية بامتياز..
وهنا نستطيع القول بأن لوحات الفنان السوري اسماعيل الحلو استطاعت أن تنقل المرحلة الحالية بتفاصيلها وأشجانها، مع الحفاظ على حالة التواصل بين الشخصيات وبيئتها من جهة، وبين تاريخها المفترض وأحلامها التي تعيشها بصمت من جهة أخرى وسط حنينٍ جارف إلى كل ما يشبهنا في زمن تغلب عليه الغربة بكل أشكالها ويحمل فيها الغائبون مفاتيح القلوب والبيوت والزمن وخيوط الشمس التي ضلت طريقها إلينا منذ سنوات.. لكن ريشة الفنان التشكيلي اسماعيل الحلو جمعتها لنا في أعمال ستظل في البال والوجدان طويلاً.
إسماعيل الحلو فنان تشكيلي سوري من مواليد حمص 1955 درس الفن التشكيلي في مركز الفنون التشكيلية بحمص وتخرج عام 1972، ودرس الهندسة المدنية في جامعة حلب وتخرج عام 1980. أقام عدداً من المعارض الفردية، وشارك في معظم المعارض الجماعية في سورية منذ منتصف السبعينات، وهو عضو مؤسس في جماعة الكتلة واللون وعضو اتحاد الفنانين التشكيليين في سورية وعضو اتحاد الفنانين التشكيليين العرب.
