أيمن جبر
اللوحة: الفنان المصري محسن أبو العزم
مضت عشرات السنين على الحادث، ولم يتبق منها إلا بعض الذكريات؛ قصص يرويها الأجداد لأحفادهم.. في مدينة مجاورة، كان بطل قصتنا «مخلص» شاب في منتصف الثلاثينيات، متزوج وله أطفال، دخله مناسب؛ عمله أيضا مريح؛ يعيش حياة الموظفين.. في المساء كان روتينه اليومي في المقاهي مع أصدقائه، وما أكثر المقاهي في بلادنا! وما أكثر الشباب المتراص يوميا عليها! مقاهي هدر العمر والأحلام في بحور اللا أمل.
كثيرا ما يفكر «مخلص» في الحالة المصرية! هي حالة مصرية وعربية بامتياز، حالة إن تم مسح لكوكب الأرض لن يجد مثلها؛ فمصر والعرب أصبحوا وكأنهم رقعة قديمة في ثوب عروس في أزهى زينتها.
في المقاهي، تُقدم المشروبات الساخنة والباردة مع وسائل التسلية، ويُخرج الزبائن كلام! كلام يخرج تحت تأثير الانجراف العاطفي؛ ففي هذه الجلسة يتحرر الإنسان من كل شيء، فقط عليه ألا يتكلم في السياسة، الدنيا واسعة جدا؛ بعد أن نطرح منها السياسة ويتبقى الكثير والكثير.
يتطاير الكلام هنا وهناك، من يتكلم ليريح ضميره وهو يظن أن لا مستمع لكلامه، من يتكلم ليستعرض ضخامة ذاته وبلاغته ويستمتع بالآذان مطرقة له، من يتعمد ألا يتكلم؛ ولكن نظرا لما يحمله من أثقال تكدر ضميره وخاطره؛ فلا بد من لحظة يسترخي حذره، فينطلق منه رغما عنه ما يحذر البوح به.. من يقدم لأصدقائه تقريرا عما خَبره ومارسه في حياته أو في الأيام الماضية، مجرد سرد بريء.
الدنيا كلها على القهاوي، وهذا ما لاحظه «مخلص» الذي أذهله أن الناس يتحدثون أحاديث يَشيب لها الولدان؛ وكأنها حكايات سندريلا والجميلة والأقزام السبعة والسندباد.. «كلام من رصاص، وجسد من نحاس»
أصبح الناس لا يشمئزون من الروائح الكريهة والخطايا العظيمة؛ بل أدمنوها مثلما يُدمن المسكين روائح الكاوتش و«الكُلة» قصص الفساد والغدر والقهر والذل والخيبة تتطاير هنا وهناك، والناس كأنهم مرضى في غرفة العمليات تحت التخدير؛ تقطع لحومهم بمشارط ولا يشعرون.
دار «مخلص» مع الناس في دنيا القهاوي كأنها درجة مخففة من غرز الحشاشين، ضميره حائر، يرصد الظاهرة، يتفاعل معها، والفكرة منفلته منه، وهو غير قانع، وهو أيضا، متألم لبلاده وأهل بلاده، إلى أن قابل «مخلص» فتى القرية! التقى مخلص صدفة بفتى القرية على القهوة، لم يعرفه من قبل، ولن يعرفه فيما بعد! وضعه الله في طريقه ليرمي إليه بطرف الخيط ثم ينصرف، حكى الفتى له ولرواد المقهى القصة التي حكاها له جده: كيف انطلقت الشرارة في القرية من الصبي، وكيف ولماذا انطفأت بتدبير العمدة الذي يمثل السُلطة.
رجع «مخلص» إلى منزله وهو يظن أنه نسي الأمر، فهي قصة من ملايين القصص التي تدور في المقاهي، لكن حالة غريبة انتابته، ظلت تتردد هذه القصة على خاطره، تبرق في عينيه ثم تختفي، ثم يتجاهلها فتبتعد، ثم فجأة تومض ثانية أمام خاطره، كأنها جنية الأفكار في أجمل زينتها، تبرز له ولا تبوح بما تريد، ولأن كل شيء لا بد له أن ينضج؛ كذلك الأفكار، أخذ يعيد التفكير في تلك القصة ويقلبها شهورا طويلة، يحاول استخراج فكرة حية منها، وفي كل مرة تُجهض، لكنه أخيرا بعد محاولات عديدة نجح في أن يجبر جنية الأفكار على الهبوط للأرض والعيش مع سيدها «مخلص» فالأفكار ملائكة تتطاير حولنا ولكن أغلبنا غافل؛ حجابه غليظ وبصيرته معطلة.
لم يتغير روتين «مخلص» في المساء؛ فقط لم يعد يسهر في مقهاه المعتاد، ظل يتنقل بين المقاهي حتى أنه أصبح من روادها جميعا، أتاح له هذا الالتقاء يوميا بأكبر عدد من الناس، وأتاح له أيضا سماع أكبر عدد من الحكايات والذكريات والشِكايات، خاصة أننا في زمن الكل يتكلم ويندر من يستمع، فتحول «مخلص» إلى آلة استماع.
أثناء سماعه يُظهر كل مظاهر الاهتمام والفضول والتعاطف، بل ويسأل ما يشاء ويُجاب في سرور وترحاب، سمح له هذا باستخلاص كثير من التفاصيل، يرجع مخلص يوميا من المقهى فيسجل في مذكرته كل ما سمعه من حكايات، الأسماء والأحداث وكافة التفاصيل مهما كان القليل أو الجليل خطرها، وأصبح لديه على مدى عام كثير من الأوراق والدفاتر التي تحوي حكايات واقعية في أغلبها، وما عليه سوى ترتيبها والاختيار منها، وكأنه يملأ مربعات مسابقة الكلمات المتقاطعة.
درس الفكرة جيدا، ودرس كل أخبار الفساد التي جمعها في دفاتره خلال عام، كان يدرك أن لا بد من اختيار قضية غير قابلة للفشل، وفي نفس الوقت يستحيل على الناس التغاضي عنها، فمعظم الذي سجله «مخلص» معروف للناس، ولكنهم مَرضى باللا مبالاة وباعتياد طعم الظلم، حتى أنه يدور بينهم وكأنه يَحدث في كوكب آخر، وكأنه فضيلة لا رذيلة.
يعلم «مخلص» أن كثيرا من الناس قد يكون لهم عورة مكشوفة، وطالما الكل صامت فلا مس بالكرامة، ولكن عندما يُعيرون بها؛ يكون الانتفاض والثورة.
تذكر «مخلص» مشهدا في الرواية الروسية «الجريمة والعقاب» مشهد دخول البطل على السجون الجماعية للنساء، فوجد كثيرا منهن عراة الصدور، قليل منهن أسرعن فسترن أنفسهن بمجرد رؤيته، أما معظمهن؛ ظللن كما هن بلا حراك.. فَسر الأديب ذلك بأن طول وكثافة الذل نزعت من النساء حياءهن؛ فلم يتبق لديهن بقية مزاج للالتفات إلى العفة.. هذا شبيه ما وصل الناس إليه اليوم، فمعظم الرجال والنساء في مدينتنا؛ أصبحوا عراة الأثداء!
استيقظ الناس في المدينة؛ على ورقات مطبوعة ومعلقة في عدة شوارع جانبية، تُفشي أسماء من يقومون ببيع المخدرات لطلبة المدراس، ومن يحميهم من رجال السلطة، الكل يعلم والكل صامت والضحايا أولادنا وبناتنا، لم يكن من الصعب انتشار خبر تلك المعلقات على الناس، فكثيرون قاموا بتصويرها ونشرها في وسائل التواصل فأصبحت حديث الناس، لكن لم يصدر من الناس أي رد فعل سوى الثرثرة، الوحيد الذي هاج ونشط هو ذلك المسؤول الفاسد وبلطجيته، بذلوا كل الجهد في محاولة معرفة من وراء المعلقات.. كان «مخلص» يدرك، أن الاستجابة لن تكون سريعة، لأن العورة المكشوفة مازالت على المشاع، مازالت تائهة بين الناس فلم تُشر بالأصابع لضحايا تلك العصابة.
ظل «مخلص» على عادته يتلقى ردود الأفعال في المقاهي، يستمع للناس ويدرس نفسيتهم في تفاعلهم مع الحدث، بعد مرور أسابيع معدودة قام بنشر ملصقات أقل في العدد، نظرا لأن الباحثين عنه متيقظون، ولكنها كانت كافية لأن تنتشر.. ذكر فيها تعريضا ببعض قصص ضحايا الإدمان من الذكور، لم يذكر أسماء، ولكنه كان يمتلك من المعلومات عن هذه القضية الكثير، فالبلد مهما كبرت فهي مجتمع صغير.
هنا ألقى حجرا في الماء الراكد فتحرك عند الناس رادار الشعور بالخطر، ففي الماضي، كل أسرة تصاب بكارثة إدمان أحد أبنائها أو بناتها تتعامل معها وحدها، وتعتبرها وكأنها ورم أصابها في موضع حساس، فيجتهدوا في تكتم الأمر، لكن يستحيل التكتم الكامل فلا بد من تسرب أنفاس وروائح من أي حادثة مكتومة في أسرة أو عائلة، فأفراد العائلة يتحدثون، ولا حديث يمكث مكانه دون تسرب أو انتقال.. أصاب أهل الضحايا الفزع، وهم كثيرون؛ فهذه مقدمة لذكر الأسماء وربما يتطور الأمر لذكر أسماء الضحايا من البنات، والقصص التي تُتداول سرا في المدينة سوف تصبح على لسان الجميع بمزيد من التفاصيل.
كان ذكاءً من «مخلص» أن اختار قضية بيع المخدرات كي تُثار؛ فغالب الضحايا من أبناء الشخصيات القادرة ماديا، فالمخدرات ليست بضاعة شعبية، وتلك الشخصيات تمتلك وسائل ضغط؛ خاصة حين يوحدهم الخطر؛ ولا أخطر من هذا التهديد.. بدأ نشاط محموم من الاتصالات لإيجاد حلول تُبعد خطر الفضائح، هنا حدث تطوران في ردود الأفعال، الأول: اختفاء البلطجية الذين ذُكر أسماؤهم، وبهذا حدث تقلص في نشاط التجارة، فلم تعد المواد المخدرة تتداول بسهولة وعلنا بين الطلبة، الثاني: قام المسئول باستخدام سلطته؛ فتم القبض على المعارضين بالبلدة والقرى المجاورة، وضَغط عليهم بكل الوسائل للاعتراف ولكنه لم يستطع الحصول على أي خيط يوصله لمخلص.. لم يكن مخلص سوى مواطن مصري بلا انتماء أيدلوجي، ولو كان عضوا في جماعة لكان من السهل التعرف عليهم جميعا وإجهاض أفعالهم.
في خضم ذلك النشاط المحموم استيقظ الناس على مُعلقات قليلة العدد تُصَعِّد من الأمر، تم ذكر بعض أسماء الضحايا من الذكور، وذَكر أحداث بعضها معلومة والأخرى مجهولة للناس؛ ثم ختم بالقول: وانتظروا قريبا المفاجأة!
انتشرت المعلقة في كل وسائل الاتصال لتثير الفزع الشديد، هذا تهديد بذكر الضحايا من البنات، لم يستغرق الأمر طويلا حتى صدر أمر بنقل المسئول الكبير إلى الصعيد، بالطبع لم يعاقب أو يحاسب على جريمته، هل يعقل أن يحدث هذا؟
لو حدث هذا ستكون بداية سلسلة لا نهاية لها؛ وهم أذكى وأعند؛ كيف يدخلوا هذا النفق ويجترئ الحرافيش عليهم؟ ولكن على أية حال كان هذا نجاحا لمخلص، فقد توقفت تجارة المخدرات الموجهة لطلبة المدارس، وأزيح المسئول الفاسد المُفسد من المدينة؛ وأثبت مخلص للناس أن هناك أمل وهناك قُدْرة.