الشتاء في لوحة.. قسوة الثلوج وجمالها عند الانطباعيين

الشتاء في لوحة.. قسوة الثلوج وجمالها عند الانطباعيين

حنان عبد القادر

اللوحة: «شارع سانت دينيس» للفنان الفرنسي كلود مونيه

الشتاء مصدر إلهام للفنانين في شتى المجالات، فحين ينهمر المطر، ويكسو الثلج الأبيض القمم والسفوح وأسطح البيوت، تتفتق مخيلة الرسامين والموسيقيين والشعراء، مما يتركه في نفوسهم من حالة وجدانية وتأمل عميق، فهناك ارتباط غامض بين فصل الشتاء والإبداع، وقد خلّد الكثير من الفنانين الشتاء في لوحاتهم، حتى أصبح لهذا الفصل حضور واسع في الأعمال الفنية، فهو رغم برودة طقسه إلا أنه يشيع جواً من الدفء والحنين، مع أن البعض يرى فيه فصلاً للكآبة والعزلة.

ليس الشتاء مجرد فصل من فصول السنة فقط، بل عالم يزخر بالمشاعر والأحاسيس والحكايات التي حاول الرسامون التعبير عنها بالريشة والألوان، فكبار الرسامين في العالم احتفت أعمالهم بالشتاء وبأجوائه، وتعددت أساليبهم وطرقهم لتناول جماليات الشتاء، فمن مشاهد المدن تحت المطر، والناس بألبستهم الشتوية ومظلاتهم، إلى الغابات البيضاء التي تكسوها الثلوج، إلى ضوء الشمس التي تطل من بين الغيوم لتلون هذا البياض بأشعتها الذهبية، فيذوب شيء منه مكونا بقعا لونية مدهشة. 

وقد تنوعت الأساليب الفنية لتنوع المذاهب الفكرية التي انعكست على الفن، واحتلت فلسفة العودة للطبيعة مكانة كبيرة عند الفنانين، خصوصاً من أتباع المدرسة الانطباعية، الذين انحازوا لنقل ما تراه العين إلى اللوحة بشكل مباشر، والاهتمام بما تتركه الطبيعة من انطباعات لدى الفنان، ولذلك شاع عند فناني هذه المدرسة الرسم في الهواء الطلق، والعناية والاهتمام بالألوان والظلال التي يتركها الضوء في المكان والزمان المحددين، وكان الشتاء فرصة لكثير منهم لنقل درجات اللون الأبيض والأزرق، والانطباعات التي يخلفها الثلج مع الدرجات اللونية الدافئة لنور الشمس.

كلود مونيه

الرسام الفرنسي كلود مونيه (1840- 1926) الذي يعتبر مؤسس المدرسة الانطباعية، أظهر البهجة والجمال، في لوحته «المتزلجون في جيفرني» التي تعد واحدة من أجمل لوحات مونيه، تصور يوماً شتوياً والصقيع يغطي الأرض، وهناك عدد من الأشخاص يمارسون رياضة التزلج على الجليد، ورغم برودة الطقس تطغى الألوان الدافئة على اللوحة، الأشجار باللون البرتقالي والأحمر مع اللون الأزرق للجذوع، والأرض المتجمدة بألوان الأبيض والأزرق مع طغيان اللون الأصفر إضافة لضربات باللون الأحمر، واستخدم اللون الأصفر لتصوير ضوء الشمس وانعكاساته في السماء.. ومع كل هذا الجو الشتوي تبدو اللوحة مشتعلة بالألوان الدافئة: الصفراء والحمراء والوردية، وجاءت حركة المتزلجين مع حركة الأشجار لتضفي على اللوحة هذه الدينامية والنشاط والدفء الذي يتعارض مع البرد القارس.

أما في لوحته «طائر العقعق» التي تعتبر من أكثر لوحات مونيه تصويراً للشتاء، فقد استخدم فيها القليل من الألوان محافظاً على جمال وحميمية المنظر الشتوي، ورغم كثرة الثلوج في اللوحة إلا أن الشمس تتسلل ملقية بعض أشعتها على الأرض، ويظهر في اللوحة طائر أسود يقف بثباتٍ على السياج، مستمتعاً بهذه الأجواء في تعبير واضح وعميق عن البهجة والفرح، ومما أضاف جمالاً إلى اللوحة وجود الظل الساقط على الثلج، والذي رسمه مونيه باللون الأزرق وليس الأسود كما يُتوقع عادة، مما أعطاها مسحة من الواقعية الخلابة.

وتصور لوحته «شارع سانت دينيس» (أعلى الصفحة) الشمس الساطعة والنهار المشرق رغم قسوة الشتاء والثلوج التي تملأ المدينة، فالأشخاص في الشارع الذي غطّته الثلوج يحملون المظلات، والنباتات والأشجار في مقدم اللوحة باللون القرمزي، والسماء بالألوان الوردية والرمادية والخضراء، وتبدو الشمس بالون الأصفر الذهبي وقد أكسب ضوؤها الغيوم التي توارت خلفها لوناً وردياً.

أوجاست رينوار

الفنان الفرنسي بيير أوجاست رينوار (1841 – 1919) من رواد المدرسة الانطباعية، تصور لوحته «المتزلجون في بوا دي بولون»، منظرًا للثلج الممتد في ساحة تزلج واسعة، تكتظ بالشباب والأطفال والنساء والرجال وهم يقضون وقت فراغهم عند بحيرة المنتزه المتجمدة، وهي مرسومة من منظور مرتفع.

تبدو الحديقة جديدة نسبيًا، حيث تظهر بعض الأبنية غير المكتملة في مقدمة اللوحة، وبدا رينوار متأثرا بمن سبقه من الرسامين الذين تناولوا نفس الموضوع، حيث استحضر فيها مناظر التزلج على الجليد التي اشتهر بها الهولندي هنريك أفركامب.

يُقال إن رينوار كان يكره درجات الحرارة الباردة، فقد كان يعاني من التهاب المفاصل الروماتويدي، لذا، فهذه إحدى لوحاته الشتوية النادرة.

قسطنطين كوروفين 

الفنان الروسي قسطنطين كوروفين (١٨٦١-١٩٣٩) مؤسس المدرسة الانطباعية في روسيا تصور لوحتة «ليلة مقمرة»، أجواء روسيا الباردة، ويظهر في اللوحة منزلٌ بلون بني داكن ويبدو من نافذته الضوء باللونين الذهبي والأصفر مما يوحي بحالة من الدفء داخل البيت وبجو من السمر، بينما الطبيعة في الخارج باردة والأرض تغطيها الثلوج وكذلك الأشجار حول المنزل، وطغى اللون الأرجواني على اللوحة ما جعلها مغرقة في الشاعرية والخيال، وأطل القمر واضحاً ومكتملاً بين الأشجار وانعكس ضوؤه الأصفر على الثلوج صانعا مع الضوء المنبعث من نافذة المنزل المغلق في وجه الصقيع ذلك الهارموني البديع؛ فتشعر أمام اللوحة بتمازج غريب بين هدوء ليل الشتاء ووحشته، مع الشاعرية التي يضفيها القمر على المكان، مع النافذة المضاءة التي تقابله والتي تشع بالدفء والسعادة داخل البيت. 

ألفريد سيسلي

تصور لوحة «الثلج في لوفسين» للفنان الفرنسي – البريطاني الأصل – ألفرد سيسلي (1839 ـ 1899) طريقا يؤدي إلى مجموعة من المنازل، وامرأة وحيدة تسير حاملة مظلتها، ويبدو الثلج وكأنه مازال يتساقط فلا آثار أقدام في الطريق، أسطح المنازل يغطيها الثلج، وثمة أشجار عارية في مقدمة اللوحة، بينما في خلفيتها تظهر الأشجار بلون أخضر مزرق، مع درجات البني الفاتح والرمادي، والسماء بين اللونين الأبيض والأزرق إضافة إلى الرمادي والوردي الدافئ، ويظهر في نهاية اللوحة ضوء الشمس خلف الثلوج باللون الأصفر.

ومع درجات اللون الأبيض والرمادي والأزرق المستخدمة للثلج، تظهر ضربات اللون الوردي والبني الفاتح في الأرض وفي السماء، لتعطي مع درجات الأصفر والبني والقرميدي المستخدمة للبيوت والجدران جمالا إضافياً للوحة. 

يخيم على اللوحة الصمت باستثناء المرأة التي ابتعدت في الطريق، ومع قسوة الثلج والطقس البارد تعج اللوحة بالألوان الدافئة المستخدمة في رسم المنازل والنوافذ، لتقدم حيوية الحياة في هذه المنازل مقابل الصمت والبرد خارجها.

تشايلد هسام

الفنان الأميركي فريدريك تشايلد هسام (١٨٥٩ – ١٩٣٥)، وهو فنان انطباعي اهتم برسم المناطق الحضرية والمدن، يصور في لوحته الشتائية «وقت متأخر بعد الظهر في نيويورك» شوارع المدينة المغطاة بالثلوج، حيث الأشجار العارية يغطي أغصانها الثلج باللون الأبيض المزرق، وفي الشارع أشخاص وعربات تجرها الخيول، والأبنية على طرف الشارع بالألوان الرمادية والبنيّة، واستخدم للنوافذ المضاءة اللونين الأصفر والوردي وكذلك للمحال التجارية، ويبدو الثلج المتساقط وقد حجب المدينة، ففي عمق اللوحة تكاد الأبنية تتلاشى سوى من ألوان بنية ورمادية تدل عليها، وتبدو عمارة مرتفعة بالكاد يمكن رؤيتها وفيها بعض النوافذ المضاءة باللونين الأصفر والوردي.

استخدم الفنان ضربات الريشة السريعة، وطغى على اللوحة درجات اللون الأبيض والرمادي والأزرق والبني مع اللون الأصفر والوردي لتصوير الضوء.

اللوحة تصور الحركة والنشاط في مدينة نيويورك رغم قسوة الطقس والثلج المتساقط الذي حجب الرؤية؛ عربات تجرها الخيول في الشارع، وامرأة تسير في طرفه حاملة مظلتها، وشخص في الجانب الآخر يهم بقطع الشارع، والمحلات التجارية مضاءة ودرجات اللونين الأصفر والوردي التي استخدمها لواجهة المحلات توحي بالدفء والنشاط، إضافة إلى النوافذ في العمارات العالية، والمصابيح في الشارع، وجاءت درجات اللون الوردي في الأرض والسماء وكامل اللوحة لتعبر عن الحياة في هذه المدينة التي تعج بالحركة.

3 آراء على “الشتاء في لوحة.. قسوة الثلوج وجمالها عند الانطباعيين

    1. شكرا جزيلا لمرورك.. أسعدني رأيك وكنت أتمنى أن أتعرف للتسم الكريم.
      تحياتي ومودتي.

      إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s