د. حمدي سليمان
اللوحة: الفنان الأكراني دانييل فولكوف
مجتمع الإسماعيلية بثقافته المتنوعة يميل إلى الانفتاح على الأخر، فهو عبر مساره التاريخي كان نموذج للتعددية، فعلى الرغم من اختلاف وتعدد الجنسيات والثقافات على أرضه وداخل محيطه الضيق، إلا أنه استطاع إيجاد صور للتعايش والاتفاق، وهى صور ثقافية في الأساس، تراكمت عبر الزمن، فيكفي أن نذكر شارع السلطان حسين وحده وهو ما كان يطلق عليه “شانزلزية الإسماعيلية”، والذي ظل لفترات طويلة خاص بالأوروبين فقط، ومحظور على أبناء العرب دخوله إلا بتصريح خاص من شركة قناة السويس، والتي حظرت على الأهالي دخول حي الإفرنج بأكمله، هذا الشارع كان به أكثر من ثلاث دور عرض سينمائي، وهى سينما “ريو” والتي تطل على الممر، وبعدها سينما “الحرية” الشتوي، والثالثة سينما “رويال” وجميعها كانت تمتلئ بكل أبناء وبنات الجاليات الأجنبية، أضافة إلى الأندية الخاصة بكل جالية، فكان هناك النادي الفرنساوي والإيطالي واليوناني..، وأيضا الشواطئ الخاصه بهم، والتي منع على المصريين دخولها، كشاطئ الدنفاه، وربما ذلك ما جعل الدكتور سليمان عيد صاحب الشعبية الكبيرة في ذلك الوقت ومعه مجموعة وطنية مخلصة من أبناء الإسماعيلية ينشئون مؤسسات خدمية لشعب الإسماعيلية مماثلة لتك المؤسسات الأجنبية، ومنها الجمعية التعاونية التي كانت بشارع سعد زغلول، وشاطئ التعاون، وغيرها من الخدمات التي عوضت الاسمعلاوية وأشعرتهم بالكرامة والفخر، وربما يكون قد سار سليمان عيد في ذلك على غرار الاقتصادي الوطني الكبير طلعت حرب. والحقيقة أن التاريخ يؤكد لنا أن أبناء الإسماعيلية كانوا يعاملون معظم الجاليات الأجنبية وخاصة اليونانين والفرنسيين كأنهم أخوة وأبناء مدينة، وكان الكثير من هؤلاء الأجانب يمتلكون المتاجر ومحلات البقالة وبعض المطاعم، كما كانوا يتكلمون العربية كأنهم مصريون، ويكفي أن نذكر الجالية اليونانية، وهي طائفة كبيرة في مصر، وبالأخص فى مدن القناة والإسماعيلية، والتي خصت نفسها ببعض المهن، كفتح المقاهي والبارات ومحلات البقالة، مثل بقالة بابا استراتي وطناشي، إضافة إلى الهوتيلات مثل لوكاندة بسطا “المسافرين” الآن، كما امتازوا بالنشاط التجاري وجمع المال، وكان لهم أنتشار عجيب مكنهم من التواجد حتى في القرى النائية وبين الفلاحين، وهم شديدوا المعرفة بعادات وتقاليد المصريين من فلاحين وغير فلاحين، فلذلك تكون مداخلهم أعمق، وأساليبهم ابرع في المرور إلى زبائنهم من المصريين، ومما يؤهلهم لذلك أنهم سرعان ما يتخلقون بأخلاق أهل البلد ويحترمون عاداتهم ويتكلمون بلغتهم، وتذكر بعض الروايات مشاركة اليونانيون سرا للمصريين في أعمال المقاومة وما قدموه من دعم مادي ومعنوي. ولذا لم يكن أبناء الإسماعيلية يعاملونهم بأعتبارهم أغراباً أو أجانب، بل أعتبروهم دائماً جزءاً أو بعضاً منهم. وهو تعامل يختلف كثيرا عن تعامل الشعب المصري مع الإنجليز، الذين كرههم المصريين طوال تواجدهم في مصر حتى خروجهم منها مطرودين بلا رجعة، لأنهم مثلوا دائماً رمزاً للظلم والطغيان والأحتلال الذي كانت معسكراته وثكناته تنتشر على أطراف المدينة من جهاتها الأربع، بل وتجثم على صدور أبناءها. ومع كل تلك المعاناة والتاريخ المليء بكافة أشكال التميز وهدر الحقوق. وما مر بها من حروب وأحداث جثام، ظلت تلك المدينة معتزة بتفردها، منذ كانت مدينة كوزموبوليتانية، تتعايش على أرضها بشكل سلمي كل الجاليات المختلفة، لتقدم لنا كرنفال بشري تعزف فيه الطبيعة مع الإنسان على وتريات من أزمنة بعيدة، كرنفال شعاره محبة الحياة، وهو ما يجعلها دوما مدينة شابة زاهية الألوان، تنتشي برائحة الفل والياسمين، مختبئة في أحضان أشجار المانجو، تزهو بثوبها الناصع، تراقص نسمات البحر الهارب إليها بموجاته الرقيقة، تعانق الأشجار والطيور وتعشق الفن والجمال، يميزها تاريخها الوطني المشرف في الصمود والمقاومة، وولعها الجنوني لكرة القدم ودراويشها، وطقوس حريق دمية اللمبي، تلك الدمية التي ترمز للظلم والقهر منذ أن ظهرت تقريبا إلى الوقت الحاضر. حيث تجاوزت عبر الزمن أسباب ظهورها، لتتخذ مع كل احتفالية تسميات لشخصيات معاصرة يرفضها الضمير الجمعي لأسباب مختلفة، أسباب يعود معظمها لما تمثله تلك الشخصيات من نموذج للفساد والقهر والسطلة الغاشمة لذا تتمتع بالرفض الشعبي، إضافة إلى عادات شم النسيم، والخروج للبحر والحدائق، وغيرها من السمات التي تعبر عن خصوصية هذه المدينة، ونمط حياتها الذي طالما تراوح بين الفانتازيا والواقعية.