أيمن جبر
اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
يواصل الكاتب أيمن جبر قصته المطولة بعنوان «ببساطة» ويمكن قراءة الفصول الأولى من خلال الرابط أسفل النص.
عقب صلاة الجمعة، قام أولاد بتوزيع نشرات على الناس تعلن عن بدء دروس مجانية للثانوية العامة، سوف تعقد في أحد صالات الأفراح التي ليس لها سوق رائج في البلدة، لم يكن الإعلان مثيرا!، فدائما ما يكون اسم المدرس هو الباعث للإثارة، وفي هذا الإعلان أسماء لطلبة شباب من كليات مرموقة، طلاب في كليات متخصصة في المواد التي سيُدَرِّسونها، طلاب مسلمون ومسيحيون، بنين وبنات… مصريون.
وكما هي البداية دوما كانت القاعة تكاد تكون فارغة، لكن تميزت الدروس بمميزات جديدة، فالقواعد تمنع أن يقوم الطالب بالكتابة أو تسجيل أي معلومة في دفتره، بهذا لم يكن أمامه سوى أن يُكرس ذهنه كاملا لتلقى المعلومة بالفهم، لم يُسمح أن يَتجاوز عدد الطلبة العشرين في الدرس الواحد، ومن يزد على ذلك فلينتظر الدرس التالي.
الدرس على نظام “الكروسات”؛ التي تعتمد على النقاش وتدريب الطلاب طوال الدرس، فكان الدرس كله تفاعل فلا يجلس طالب في “بَلادة”، بالإضافة لكل ما مر؛ يتم تصوير الدرس بطريقة محترفة ثم يُنشر على اليوتيوب ويظهر المدرس والطلبة بتفاعلهم على النت، مع مراعاة أن يقوم المصور بعمل مونتاج فيقوم بقص أي حوار خارج أو موقف مُحْرِج للطالب أو المدرس.
كان لنجابة المدرسين الشباب وللمميزات التي أضيفت للدرس عاملا لجذب الطلاب والترويج للمشروع الخيري، فلأول مرة يقام درس لا يعتمد على التحفيظ والتلقين للأسئلة المكررة، الأسئلة التي يُتوقع أن يفرغها الطالب في ورقة الامتحان، بل هدفه تنشيط العقل ليكون جديرا بمواجهة أي امتحان. عقلا مؤهلا مدربا وليس خازنا.
أنبل ما في هؤلاء المدرسين؛ أنهم تعهدوا أن لا يتكسبوا من هذا العمل التطوعي، فرغم سوء الأوضاع المادية في المدينة ورغم معاناة الشباب، إلا أنهم امتلكوا الوعي الذي جعلهم يُدركوا أن آفة هذا العمل التطوعي أن يكون سُلما للشهرة، وذلك عندما يقوم المدرس بتحويله لعمل خاص به.
المثال
فرغ الخطيب الشاب من إلقاء خطبة الجمعة، في أكبر مساجد المدينة، تلك الخطبة التي كان يتندر بين أصدقائه في مجالسه الخاصة قائلا: “الخطبة التي تدعو إلى عبادة الأصنام“. ثم طوى الورقة وحشرها في جيبه أمام الناس، ثم قال: أما وقد فرغنا من المقرر، فلا مانع من الترفيه ببعض المواضيع التي نعدها من التوافه“. في تلك اللحظة قام أحد المصلين بإخراج ورقة وقلما، ليسجل ما سيقال؛ ومتحسبا أنه ربما جُن وسوف يتكلم في السياسة.
قام الشيخ بنقد الانفلات في الأسعار، وتكلم عن الربح الناتج عن جشع التاجر، فليس من الحلال أن ينتهز التاجر تلك الفوضى الناتجة عن غياب الرقابة، فيزيد من الأسعار حسب هواه ليستعجل كنز المال السهل.
وتعجب كيف يرضى التاجر بربح يصل لنصف وربما ضعف الثمن الأصلي!.، حذر الشيخ من أن هذا سُحت، وأنه يلوث حياة الإنسان، طلب من كل فرد أن يقوم بواجبه في منع هذا الظلم، الزوجة تذكر زوجها، الابن يذكر أباه، والأب يذكر ابنه، الكل يوصى بالمكسب الحلال ويحذر من المال الحرام.
ما إن فرغ الشيخ من الصلاة، حتى اقترب منه رجلان معروفان وصحبوا الشيخ معهم إلى حيث يحاسب حساب الملكين.
الغريب أنه عاد لبيته سريعا، ومارس الخطابة دون توقف، بل واستمر في ثني الورقة ثم الحديث عن مشاكل المجتمع التي تمس كل فرد، فينبه على واجب الفرد والمجتمع تجاه تلك القضايا.
الجديد الذي لم يعرفه الناس، أن الشيخ الشاب تمتع أخيرا بالنوم الهادئ الذي خاصمه زمنا طويلا، فقد كان يشعر أنه يخون عهده مع الله ويقدم دينا مائعا للناس، واليوم عاد التناغم بين وظيفته وضميره ورضي عن نفسه ويكاد يَشم نسائم رضا الله عنه.
يرجع ذلك إلى أنه قام بواجبه بتنبيه الناس أنهم من يصنعون العفريت ويُرهبون أنفسهم به، فلا يوجد أحد يمنع الناس من الإصلاح والدعوة إليه، فالناس هم من يبالغون في تخيل الآلهة البشرية ويبالغون في قدرتهم ونيتهم ويبالغون أيضا في الاستهتار بأنفسهم، فلا يتركوا لخيالهم فراغ لأي سعي إيجابي.
فتح الشيخ الشاب الباب لبعض زملائه من الخطباء؛ ضغطوا معه على تلك القضية بتوضيحها للناس، فخاف أغلب التجار على رزقهم الحلال أن يتلوث؛ فحاسبوا وذَكَّروا ذويهم ممن ينفقون عليهم من تجارتهم، وانتبه الناس لواجبهم الديني تجاه السرقة والاستغلال وتعلموا أنهم يسرقون أنفسهم بسلبيتهم قبل أن يَسرقهم التاجر.
مرت أشهر و”الخطيب الشاب” مستمر في تلاوة الخطبة المقررة، ثم يتبعها بملاحظة تخص المدينة وأحوالها ويربط موعظته العملية برباط من الدين، موعظة لا تتجاوز دقائق قليلة ثم تقام الصلاة.
وكان ملحوظا تزايد أعداد المصلين كل جمعة، وفي إحدى الجمع؛ قام “الخطيب الشاب” بعمل غير معتاد!، قام بقراءة الخطبة المكتوبة في سرعة بدت متوترة حتى أن الأمر بدى كوميديا للمصلين، ومع استمراره في عجلته بدأ ينفلت من المصلين ضحكات مكتومة، تبعها انفجار الجميع بالضحك، قد تكون نادرة تاريخية أن يحدث هذا الهرج الضاحك في خطبة جمعة، دهش الخطيب ثم تمالك نفسه وتمهل في تلاوة الخطبة قليلا.
طوى الورقة كعادته، ثم قال أيها الناس:
“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“. وإني سوف أدعو، فمن شاء فليؤمن على دعائي! ثم أخذ يلقن الناس دعاء غليظا على من يرشو ومن يرتشي ومن يتسبب في رشوة ثم تبعها بقوله رددوا ورائي، ظل يلقنهم تعهدا أمام الله بالكف عن الرشوة ومحاربتها والتبرؤ ممن يمارسها حتى لو كان أقرب الأقرباء، ثم تبعه بدعاء غليظ على أنفسهم أن يعاقبهم الله عقابا مأسويا إن أخلوا بهذا العهد، ثم حضهم على أن يلقن كل منهم ذويه هذا الدعاء وهذا التعهد. ثم قال: أيها الناس، عندما تفعلوا ما في وسعكم يزيل الله عنكم ما فوق وسعكم، ثم أمر بإقامة الصلاة. أصبح حديث المدينة كلها تلك الخطبة الجديدة في طرحها.فقد اعتاد الناس على التوبة بألفاظ عامة؛ مثل التوبة من الذنوب جميعا وبعدها يعودوا لحياتهم بضمير غير مثقل وكأنهم ملائكة الأرض، لكن في تلك المرة أخذهم الخطيب على حين غِرَّة، فقد خصص الذنب وأشهد الله عليهم وجعلهم يدعون على أنفسهم!
في المساء زار “الخطيب الشاب” “قسيس المدينة” في بيته؛ حكى له ما حدث، ثم طلب منه أن يسانده في تلك الدعوة. فربما كان لهما ثواب تطهير المدينة من تلك الآفة المتفشية.
في موعظة الأحد لم يقصر القسيس وكرس الموعظة كاملة لهذا الغرض، كان الأمر أيسر عليه فلم يصل إليهم بعد اختراع الموعظة الموحدة! وبركة العمل بإخلاص أصحابه، ولا يخلو الناس من خير، بل غالبهم الخير، وغالب الناس يتيهون عن ترجمة ما بهم من خير حتى يُلِقَّنوا ما يجب فعله.
في الجُمع التي تلتها كرر الخطيب نفس العمل ولم ينتقل لموعظة أخرى، أعلن أنه لن يعظ جديدا حتى ينتهي الناس جميعهم عن هذا المرض والذنب الكبير، سانده زملائه من الخطباء في دعوته وسانده الأخلاقيون من الناس.
أصبح تيارا، وبدأ الناس التحرج من الرشوة، عزز من الدعوة سريانها في المسلم والمسيحي، فشجع هذا المشترك على شيوع التطهر وسرى لأول مرة في المدينة دعوة أخلاقية مشتركة بين الناس توقظ الضمير.