اللوحة: الفنانة الهولندية هنريت رونر
ورث “ممدوح” وأخوته من الوالد تجارة ناجحة جعلتهم أثرياء، اشتغل الأخوة الذكور الثلاثة في تجارة أبيهم وتزوجوا وسكنوا في البناية الكبيرة التي اشتراها لهم. بعد أن توفي الوالد قاد “ممدوح” أخوته في التجارة، ومرت الأيام السعيدة وهم محسودون في حياتهم الناعمة؛ إلى أن تُوفي أحد الأخوة في حادثة، وترك زوجة جميلة وولد وبنت.
كانت الأرملة الشابة أخت لزوجة “ممدوح”، فعاشت وأولادها في رعايته وجواره، وتولى بنفسه إدارة نصيب أخيه من التجارة التي ورثوها.
توالى سريعا تقدم الرجال لطلب الزواج من الأرملة الجميلة والثرية، وكلما تقدم لها أحد للزواج، يوجه إليها “ممدوح” جملة واحدة: “أنت حرة، ولكن لن يتربى أولاد أخي مع غريب”، فتتراجع المسكينة وتُحرم من الزواج الحلال، وتختار أولادها على حاجتها للسكن والأُنس والعون في تربية الأولاد، ومع ذلك لم يتوقف الرجال عن طلب يدها.
وكنت كلما جمعني معه لقاء، يدور بيننا الحديث المُزْمِن، فيشتكي من تصرفات أرملة أخيه الطافحة بالتمرد والغيرة، فكلما رأته مع زوجته وأولاده في مناسبة سعيدة أو سهرة، كانت تثير المشاكل وتتعمد تعكير مزاجهم وتكدير سهرتهم، وحين تراهم في جو أسري هادئ تقوم بإثارة أي حديث ينتهي بالنكد للجميع، هذا فضلا عن كلمات تنفلت منها كل وقت تعبر عن تذمرها من القفص الذهبي، فقد كانت تسمي بيتها بالقفص الذهبي.
كان “ممدوح” يتحمل كل هذا التمرد ويتفهم أنه احتجاج على وحدتها وحرمانها من الزواج. وعقب كل حديث عنها بيني وبين “ممدوح”، أنصحه بكافة وسائل الإقناع أن يطلق سراحها، وكان يوجه لي إذنا صمَّاء، وحين أنبهه إلى حُرمة هذا الظلم، يرفض الاعتراف بأنه يتعارض مع الدين، ويقول: ما شأن هذا بالدين، أولاد أخي من حقنا!
ولم يكن “ممدوح” قاسيا، بل يمتلك مشاعر مُرْهفة، فدموعه تنسكب سريعا في المواقف العاطفية والدينية، كريم في الإنفاق والعطاء، لا يفوته فرض في مسجد، يكره النفاق ويتمنى كل الخير للناس، فور عِلمه بظلم أو قهر يندفع بنبل لمقاومته دون مبالاة بالعواقب، وفي صلاة التراويح برمضان كان يغطي بكاءه المختنق والمرتجف على قراءة الإمام.
يربي “ممدوح” في مسكنه قطة من نوع نادر، متعلق بها كثيرا ويُعاملها كفرد من أفراد الأسرة، وعندما يأتي موسم التزاوج يتصاعد المُواء منها ويُزعجه، فكان يُصر على عدم جلب ذكر لها، لأنه لا يريدها أن تحمل وتلد.
عزم “ممدوح” على الحج واقترب موعد الرحيل، وتصادف أنَّ القطة كانت تموء وتتألم، فقلت له:
– ألا تتحرر من مظالمك قبل الحج حتى يتيسر أن تعود مغفورا لك متطهرا!
– مظالم!.. أي مظالم!.. أنا لم أظلم أحدا.
– القطة.. ستسافر وتتركها تموء!، ألا تخشى أن تشتكيك إلى من ترجو غفرانه؟ ربما طردك لأجل القطة!
– ههههه
– أضحك ولكن تَذَكَّر القطط التي تموء في بيتك.
– هل جعلتها سريعا قططا وليس قطة واحدة؟ أنت الذي تظلمني.
– أنت تفهم قصدي.
جمع متاعه وغادر ليلحق بالطائرة، وفي الحج كان حريصا على صلاة جميع الفرائض بالحرم، وأكْثَر من التزاحم ونجح مرتان في لمس الحجر الأسعد، وغمرته الروحانيات كثيرا وطويلا في صلاة القيام بالحرم، وكان الحج بالنسبة له مثاليا ومثمرا؛ عاد وكله شعور بالفوز والتطهر من الذنوب.
مرت سنوات قليلة ثم شعر “ممدوح” بأعراض إرهاق مستمر، ثم بدأ رحلة قاسية مع المرض الخبيث الذي تسلل إلى جسده وطغى دون أن يشعر، ولم يصمد أمامه طويلا، وفي آخر لقاء به؛ كان يرقد “ممدوح” على سريره في المستشفى الخاص ويتفرع من جسده خراطيم وأسلاك أجهزة العناية المركزة، لا يُسمح بالدخول إليه إلا فرادى ولدقائق معدودة، حين دخل عليه أخوته وأهله كان متماسكا وصامتا، وحين رآني أمامه انهمرت الدموع من عينيه بغزارة، وتبادلنا نظرة مِسكينة لا يفهمها سوانا، نظرة فوات الأوان، مسحت بيدي على كتفه وقبَّلته، ثم انصرفت.
وتوفي ولما يبلغ الأربعين من العمر.
رحل “ممدوح” وترملت زوجته، وزاد برحيله عدد القطط التي تموء، وتولى أخاه الأصغر مهمة حراسة الثروة وقِطَطها.

جميل جدا و رائع
إعجابإعجاب