عن الهايكو.. أتحدث!

عن الهايكو.. أتحدث!

اللوحة: الفنان الياباني اوهارا كوسون

لقد كثر في السنوات القليلة الماضية، خاصة في العالم العربي، الحديث عن «الهايكو» هذا الشكل الشعري الجديد الذي تعلق به الكتاب الشباب وأصبح هوسهم وشغلهم الشاغل، حتى أنه صار مرتعا لكل من رأى نفسه يخط شيئا يشبه في شكله هذا اللون من الكتابة بغض النظر عن معناه ومقاصده وجمالياته، وأصبح يدعي من حيث لا يدري أنه من كتابه، والغريب في الأمر أن يؤازرهم أيضا بعض مدعي النقد الأدبي؛ فيمدحون ويصفقون لهم؛ مما يدل على غياب الفهم والوعي بحقيقة هذا الفن ومعناه والهدف منه، سواء من الكتاب أو النقاد. 

يعد شعر الهايكو أهم وأكثر الأجناس الأدبية المعروفة عربيا من فنون الكتابة التي وردت إلينا من ثقافات وآداب شرق آسيا، ولعله النافذة المتسعة الوحيدة التي يمكن للمتلقي العربي أن يطلع من خلالها على المشهد الشعري الياباني بشكل خاص، باعتباره البيئة الأصلية التي أنتجت هذا النوع من الكتابة، والذي انتقل من المحلية إلى العالمية في أواخر القرن العشرين، ليصبح «صيحة حداثية» رغم ارتباطه الوثيق بالتراث الياباني وظهور موجات حداثية في اليابان تحاول التنصل منه والخروج على قواعده كما نفعل نحن في محاولة التنصل من الشعر العمودي وقيوده.

وفي محاولة للحديث هنا عن هذا الفن، لن أدخل إلى تعريفه وتاريخه، أو مم يتكون  وكيف يكتب، أو من هم رواده الأوائل ولم كتبوه، فقد قتل الكتاب من قبل ذلك بحثا وتتبعا، لكني أود أن أثرثر معك – عزيزي القارئ – حول رؤيتي الخاصة وإحساسي به، ربما أتقاطع في ذلك مع غيري ممن تناولوه بالبحث والتدقيق، وربما أخالفهم ويخالفونني الرأي، وربما استعنت ببعض ما قالوا حوله على سبيل الاسترشاد أو التفنيد، فإن هدفي في النهاية أن أحاول وضع هذا الفن بين يديك بمعناه وكنهه الذي أستشعره، لعلني أستطيع أن أشرحه بكلمات ولغة مبسطة بعيدة عن التقعيد والتنظير الذي لا طائل منه، طالما في النهاية نخرج بمفهوم ملتبس عنه.

ولكي نتعرف على الهايكو، لابد أن نعرف معنى تلك الكلمة، فكما نقول في مثلنا الشعبي: «الجواب يظهر من عنوانه» فلا نستطيع أن ندخل لعمقه دون أن نعرف هيئته، فمثلا إذا قلنا: سنتحدث اليوم عن الشعر العمودي، أو قصيدة التفعيلة، بالتأكيد سيستحضر الذهن صورة شكلية ما لما يسمى عمودي أو تفعيلة، لذا لابد أن نعرف ما معنى هذا العنوان: «هاي كو» وهو بالفعل يتكون من هذين الصوتين: هاي بمعنى الممتع المدهش، وكو: بمعنى اللفظ أو العبارة والكلام، فالهايكو إذن هو الكلام المدهش الممتع، وأستعير هنا ما قاله الشاعر محمد عضيمة وكوتا كاريا في كتابهما الهايكو الياباني بتصرف: (الهايكو «يتألف من مقطعين: الأول «هاي» ومن معانيه: المتعة والإمتاع، الضحك والإضحاك، الثاني «كو» ومعناه: لفظة أو كلمة أو عبارة، فإذا ترجمناه حرفيًا يكون «عبارة أو كلمة ممتعة، مدهشة، مسلّية ومضحكة» أو ما يمكن أن نسميه «حس الطرافة» أو «المزاجية الظريفة» أو «العبثيـة المسـلية»)

يقول «يوسا بوسون» واصفا امرأة منفوشة الشعر:

يا لشعرها الأشعث المنفوش

كمجرى ربيع

فوق الوسادة

ويقول «ماتسو باشو» في دعابة له: 

البراغيث والقمل

حصان يصهل

قرب وسادتي!

لذا، فقد يعبر الهايكو عن مواقف ساخرة ولا تخلو من الدعابة بقصد إشاعة البهجة ورسم البسمة ونشر الفرح وسط الظروف الصارمة الجادة، يذكرني ذلك بحس الفكاهة عند الشعوب، واستخدامهم «النكات» خاصة في مواجهة الصدمات ومصاعب الحياة، فيحولون المصائب لمشاهد كاريكاتيرية يخففون بها وطأة الألم، فلنتخيل مثلا مثل هذا التركيب اللغوي الذي ينتمي لفن «النكتة»:

يقول المعلم: يعيش القرد في أفريقيا

يرد الطلاب:

يعيش.. يعيش.. يعيش!

***

عصفور جوعان

يضع له رجل نذل

حبوب فاتح شهية

لعلك ترى أني ربما خرجت عن الموضوع الرئيس الذي نتحدث فيه، لكن الشيء بالشيء يذكر، وربما لدينا – نحن الشعوب العربية – ما يشبه فن الهايكو لكننا مولعون بما يأتينا من الخارج ولا نحتفي كثيرا بما نملكه بالفعل، لأننا أصبحنا نتعامل معه بحكم العادة، فلم يعد يبرق في أعيننا، وربما عدت بك لاحقا أو ربما في مقال آخر لأمثلة من أدبنا العربي تشبه ذلك.

إذن فن الهايكو معناه: الكلام الموجز الذي إذا سمعته شعرت بالدهشة والإعجاب والمتعة؛ لأنه أعطاك معنى غير متوقع لمشهد معروف بالنسبة لك، لكنه عبر عنه بطريقة غير مسبوقة، تحمل مفارقة طريفة تلفت انتباهك، ولكي نكون موضوعيين في هذا، علينا أن نعرض نموذجا كمثال على ذلك.. يقول «ماتسو باشو» مؤسس هذا الفن في مقطع من مقاطع الهايكو:

كم هو عجيب

أن نرى البرق ولا نفكر

الحياة زائلة

ففي السطر الأول يتعجب من أمر، نكتشفه في السطر الثاني وهو رؤية البرق في السماء دون أن يستغرقنا التفكير، وعندما نتساءل لوهلة: فيم نفكر؟ يأتي الجواب غير المتوقع وهو نفكر في أن الحياة إلى زوال، فلا علاقة ظاهرة بين زوال الحياة ورؤية البرق، لكنه أخذنا بذلك لتصور غير مطروق عند السامع، وربما لم يخطر له على بال.

تعال معي عزيزي القارئ لألعب معك تلك اللعبة مع مقطع آخر لباشو، لكن لن أعطيك جملة المفارقة مباشرة، وسأتركك لتفكر قليلا، وترى هل فعلا أتت النهاية غير متوقعة بالنسبة لك؟

يقول باشو:

أول مطر في الشتاء

ترى ماذا سيحدث في هذا المطر أو كيف يكون، وما الذي يريد أن يذكره حول هذا المطر؟ يقول:

حتى القرد

ما علاقة القرد هنا؟ وماذا أصابه بسبب مطر الشتاء يا ترى؟ فنجده يجيب:

يبدو بحاجة لمعطف مطري

وكأنه يريد أن يخبرنا بغزارة المطر وبرودته وقسوته، فحتى القرد صاحب الشعر الكثيف الذي يغطي كل جسده يحتاج في هذا الجو العاصف الممطر شديد البرودة إلى معطف يقيه المطر.

وإليك مقطع ثالث أرجو أن تنظر إليه بنفس الكيفية، وتتعامل معه كما سابقيه، يقول باشو:

كومضة برق

في الظلام تمضي

صيحة مالك الحزين!

إذن، الهايكو يلعب على المفارقة ليستجلب من المتلقي الدهشة، ويتركه مستمتعا مع تلك الدهشة مفكرا في مسبباتها وما تركته في نفسه.

ويحمل فن الهايكو بُعدًا فلسفيًّا، صوفيًّا وروحيًّا، يقوم على وحدة الكون، ويرتكز على احترام كلّيّة هذا الكون وتحرير طاقة العقل عبر التبصّر والتأمّل في الطبيعة، وهذا يعود لمرجعية فلسفية بوذية هي فلسفة «الزَّن» التي تهتم فقط بالوصول إلى الحقيقة المطلقة، هذه الفلسفة هي لب ديانة «الشنتو» اليابانية، والتي يؤمن معتنقها أن روحه بعد تحررها من مادية الجسد تتوحد مع عناصر الطبيعة، لهذا تعتمد فلسفة الزَّن على التأمل العميق حتى يصل المتأمل لحالة يستطيع فيها أن يتجرد من ذاته وشهواته فيصل لما يسمونه «النرفانا» وهي حالة التنوير والبصيرة التي تجعله عالما بأسرار الطبيعة وجمال عناصرها، والشعور بحركاتها وسكناتها والتماهي معها، لذا نجد هذا الفن قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالمواسم والفصول، وأحوال الطقس ومظاهر الطبيعة.. يقول باشو:

من وقت لآخر

توفر الغيوم استراحة

لمن يتأمل القمر

وفي الهايكو يكون التركيز على التصوير المشهدي، بمعنى آخر على الصورة البصرية الآنية، وكأنك تلتقط صورة فوتوغرافية أعجبتك، فتذهب معها لمنتهى الدهشة الفطرية العفوية كدهشة طفل، ثم تربطها بغيرها ليصبح عندك مشهد ذو بعد جمالي فلسفي تأملي، فكما يقول «هوراس» الشاعر العظيم: «الشعر هو التصوير» نستطيع أيضا أن نرى في التصوير شعرا، وفن الهايكو يشبه أيضا فن الرسم، فقصيدة الهايكو رسم بالكلمات، وهي تشبه فن السينما الذي يعرض لك لقطة في ثوان معدودة، لكنها تعبر عن تجربة عميقة بما تحمله من معان، فلتنظر مثلا لقول باشو:

هنا ونحن نفترق الآن

دعني أتحدث..

بفصل زهرة ليلك عن غصنها!

فهو يرسم لنا مشهد فراق بين حبيبين أو صديقين بما يحمله ذلك من ألم وحزن، ويقابله في نفس الوقت بمشهد قطف زهرة ليلك عن غصنها الذي تنتمي إليه، ويتركك كمتلقٍ – مشاهد – تستشعر ما في ذلك من مشاعر إنسانية، ومن طرف خفي، هو يعلمك ألا تؤذي الطبيعة ولا تنتهك قدسيتها، فقطف زهرة هو جرم وألم يشبه ألم فراق المحبين، بل أشد وطأة.

انطلاقا من تلك الفلسفة، ومن هذا الجمال في الطرح، تجد فن الهايكو هو فن الدهشة التي تعقب التأمل العميق فيما حولك، عندما ترى شيئا يستوقفك لدرجة أنه يدفعك لتقول للآخرين: يا الله! انظروا لهذا! وقتها تكون بالفعل قد وقعت في سحر الهايكو، وهو التحام وتماهٍ عميق مع الطبيعة والنفس الإنسانية؛ فالسر في كتابة نص هايكو ناجح أن تكون متيقظا لنواحي الجمال التي لا ينتبه لها غيرك في الكون، والنواحي التي نراها مستهجنة أيضا؛ لتلفت النظر إليها وتحملها فلسفتك الخاصة التي تقود المتلقي إلى الشعور بالإعجاب والثناء أو النفور أو الحزن أو الفرح، وتترك في روحه علامة للتعجب! تلك الفلسفة التي تسعى لمعرفة الحقيقة الكامنة ببواطن الأشياء، وحسنها الخفي، وإنه يطرح أمامك تحدٍ عليك أن تجتازه، فهو السهل الممتنع، رغم استسهال الكثيرين له والتصدي بجهالة لكتابته. 

الهايكو مسحة صوفية، له سحره الخاص المتبدي في قدرته على تكثيف اللحظة الحياتية العابرة بلغة بسيطة أشبه بقريحة طفل مندهش لأول مرة بالحياة ومظاهرها، وتحويلها لحكمة تخلد في الزمن، فقصيدة الهايكو هدفها أن تسحر المتلقي بأن تكشف له الجمال الخفي في الكون من خلال لحظات التأمل والتنوير.

4 آراء على “عن الهايكو.. أتحدث!

  1. العزيزة الكاتبة والشاعرة شهربان معدي، سعيدة بتوقفك هنا، وشكرا لرأيك الذي أعتز به.. تحياتي لذوقك ورقيك.

    إعجاب

  2. شعر الهايكو، في جوهره، لا يمكن اعتباره شعرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هو
    مجرد ومضات لغوية تفتقر إلى العمق والبنية الموسيقية التي تميز الشعر العربي.
    إنه انعكاس لعصر السرعة، حيث بات العقل العربي فارغًا، متعجلًا، لا يريد الغوص
    في المعاني بل يكتفي بكلمات مختصرة كوجبة سريعة لا تغذي الفكر. لقد أصبح
    الشعر، كما العقل، ضحية لهذا الاختزال المفرط الذي لا يترك مجالًا للتأمل أو
    الإحساس الحقيقي بالكلمة.

    إعجاب

    1. شكرا أستاذ ماهر لمرورك وتوقفك عند المقال.. هذا يهني أنه أثار اهتمامك، وذلك في حد ذاته أمر يسعدني وأشطرك عليه.
      أما وجهة نظرك التي طرحتها، فتحتاج لنقاش مطول لا تتسع تلك المساحة للحديث فيه.. شكرا مجددا لاهتمامك.

      إعجاب

  3. شكرًا بحجم السّماء، أستاذة حنان القديرة، على هذه المقالة الرائعة، الشموليّة، التي أفضلتِ علينا بعمق معانيها، حماكِ الله ورعاكِ ودام نبض قلمك الأثير وفكرك المُنير..

    إعجاب

اترك تعليقًا على حنان عبد القادر إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.