الجارية والجنرال

الجارية والجنرال

د. ناصر أحمد إبراهيم

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة

اللوحة: الفنان الإنجليزي فريدريك جودال

ميّز كل فترة استعمارية (ومنها فترة الاستعمار الفرنسي لمصر)، وجود نوعين من البشر -المحتل وضحايا الاحتلال – في حيز جغرافي محدد. ولعل دراسة هذا التفاعل بين الجانبين والذي يحتمه منطق الحياة، يقدم الكثير من خلال تسليط الضوء على العلاقات الإنسانية التي تنشأ بين الجانبين، ومنها علاقات الحب لما تتميز به هذه العلاقات من عاطفة قوية، وارتباط بين أفراد من ثقافات مختلفة، يحتم معه طرح القضايا الخلافية الشائكة بين الجانبين، وبذلك يضع فكرة تمازج الثقافات وقبول كل شخص لهوية الآخر على المحك، بعيدا عن الأفكار الرومانسية والشعاران السياسية البراقة.

تقوم هذه الدراسة على تقديم قراءة تحليلية ليوميات سجلها ضابط فرنسي يدعى جوزيف ماري مواريه، وتحديدا حول ما دونه بشأن علاقة خاصة كونها مع أميرة مملوكية تدعى زليمه، كانت محظية أحد البكوات المماليك الذين لاقوا مصرعهم أمام الفرنسيين في معركة إمبابة (الأهرام) التي على أثرها يدخل بونابرت بجيشه مدينة القاهرة. 


لعل أقدم دراسة متخصصة حول تاريخ الحب” تلك التي تعود إلى عام 1863 للمؤرخ الفرنسي “سيناك مونكو” Cénac – Moncaut الذي وضع أطروحة من جزئين حول “تاريخ الحب” في المجتمعات الأوربية من العصر القديم حتى القرن الثامن عشر. وبالمقاربة مع الاهتمام بدراسة الحب في المجالين الأثيرين الفلسفة والأدب، لا يزال ثمة حالة من الفتور بالاهتمام بإنتاج دراسات متخصصة حول تاريخ الحب في الحقب التاريخية المختلفة.

وربما كان لقلة المصادر والوثائق والأوراق المتعلقة بهذا الجانب شديد الخصوصية، السبب الرئيس وراء قلة اهتمام المؤرخين، وتشكك الكثيرين في إمكانية توافر المعطيات التاريخية الأولية بدرجة كافية يمكن معها أن تسمح بدراسة هذه الظاهرة تاريخياً، وتطوير الأفكار والإفادة من الأطر النظرية التي تطورت بدرجات متفاوتة في رحاب الفلسفة والنقد الأدبي. وحتى تيار دراسات النوع (الجندر)، الذي أعطى زخماً مكثفاً وكبيراً حول المرأة، كمجال دراسي قائم بذاته في سياق الدراسات الأدبية والعدالة الاجتماعية، وما يتعلق باهتمامهم المحدود بتاريخ المرأة كفاعل تاريخي مهمش يتعين الدفع به إلى المتن، هذه الجهود المبذولة لا تزال بعيدة عن تقديم مساهمات جادة في هذا الصدد ، وخاصة في الدوائر الأكاديمية العربية، بل ويمكن القول بإن “تاريخ الحب” بشكل عام لا يزال أرضاً بكراً، ينتظر من يستقصي مصادره التاريخية في أضابير الأرشيفات المختلفة لاسيما أرشيفات العائلات والأوراق الخاصة للأفراد.    

ويجب الاعتراف أن السبب وراء الاهتمام بعمل محاولة لدراسة تاريخ الحب في زمن الاستعمار الفرنسي، يعود في الحقيقة إلى عامل الصدفة حين طالعت بأرشيف فانسين بباريس مجموعة من الجوابات الخاصة لسيدات من مواقع اجتماعيه مختلفة (مملوكية ومصرية وغير مصرية) تم تبادلها مع مجموعة من الضباط الفرنسيين بجيش الحملة، تكشف هذه الجوابات عن زيجات رسمية، تفيض بالمشاعر المضطربة بين الحب والخوف من المجهول الذي ينتظرهم إذا فشلت الحملة، وخاصة مع متابعة التطورات المؤسفة لجيش الاحتلال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وتسمح هذه الجوابات بالتعرف على بعض الخصوصيات الدقيقة في حياة أصحابها وتصوراتهم للواقع وللحياة وللموت وللخطر المحدق بهم في لحظة استثنائية وثقيلة تحت الاحتلال.

ازداد اهتمامنا أكثر بدراسة هذا الموضوع حين طالعت “مدونة من الأوراق الخاصة” لضابط يدعي “جوزيف ماري مواريه”، تبين منها كما ذكرنا آنفاً وجود علاقة خاصة وثرية، جمعته بامرأة مملوكية تدعى “زليمة”. وكان مواريه قد اعتاد، بعد أن يهدأ ضجيج المدافع وتتلاشي رائحة البارود، على الخلو بنفسه لكتابة ملخص لكل ما مر به في يوميات القتال. كان يحتفظ بقصاصات الورق في جيوبه، وما يدونه يحتفظ به في حقيبته الخاصة التي لم تفارقه خلال تنقلاته ، حيث شارك في معظم المعارك من أول لحظة الانزال بالإسكندرية حتى الانسحاب من مصر، والمعركة الوحيدة التي لم يخضها هي حملة الجيش على سورية؛ حيث اكتشف خلال توجهه إلى المعركة وهو بالعريش أنه أصيب بالطاعون فتم عزله عن كتيبته، وتألم كثيرا وشعر بالخوف والرعب من دنو أجله والموت الوشيك بهذا الداء المميت في بلاد غريبة سيتحول بعدها إلى مجرد رقم في عداد الموتى المفقودين في هذه المغامرة العسكرية التي فر قائدها (بونابرت) هربا إلى فرنسا تاركا الجيش في مأزق كبير. ما خفف من حزنه واستيائه شفائه بأعجوبة من مرض الطاعون، فعاد إلى سريته العسكرية بدمياط. ليواصل كتابة يومياته. لقد كانت الكتابة بالنسبة له فعل حياة، يتنفس عبر كلماته التي يسجل بها غضبه واستيائه من المغامرة العسكرية الفاشلة، ومعبراً عن احباطاته من كل شيء حوله.

ومن هنا تعد هذه الأوراق الخاصة بمثابة “وثيقة حية”، حررها بأسلوب بسيط ومباشر وخال من الزخارف الأسلوبية، ما جعلها تقترب من نمط الكتابة الانطباعية الواقعية الأقرب للشهادة التاريخية. ونلمس ذلك بوضوح في مسألتين الأولى عند تسجيله لهمسات الجنود وانتقاداتهم للقادة، والثانية في كشفه عن تجربته الخاصة مع المرأة المملوكية، والتي سرد قصتها بحسب تطورات الأحداث وما اتاحته الظروف من لقاءات جرى تسجيلها في حينها على قصاصات أوراقه المفردة. وهو نفسه لم يتوقع يوماً أن يهتم أحد بنشر تلك القصاصات الورقية مجمعة. وأنه حين قبل بعرض أحد الناشرين لتلك القصاصات، ترك للناشر مهمة ترتيبها بحسب تطورات وقائعها الزمنية، ومن هنا جاءت قصته مع زليمة متناثرة عبر اليوميات، ولهذا دلالته: أننا أمام نص يوميات لها طابع استثنائي، من زاوية أنها اعتمدت كلها على أوراق مفردة، لا يربط جميع خيوطها سوى الحدث والظرف التاريخي من ناحية، ومن ناحية أخرى، جاءت أشبه بالمدونات التي تحرر بقوة انفعال اللحظة، وتأثير الحدث على صاحبها، ومن ثم فالنص يحتفظ بحيوية وانفعالات صاحبه.

ويهمنا في قراءتنا التحليلية لهذه اليوميات، أنها رصدت قصة علاقته الغرامية مع تلك الأميرة وحواراته معها خلال اللقاءات المتعددة التي جمعت بينهما، فضلا عن احتفاظه ببعض جواباتها التي أرسلتها إليه عبر خادمتها التي كانت بمثابة “رسول الغرام” بينهما، وقد لعبت هذه الوصيفة الخادمة دورا مهما في ترتيب العلاقة في بدايتها ونهايتها، ولأنها كانت تعرف الفرنسية، حيث كشفت في حوارها بالفرنسية مع مواريه، أنها فرنسية الأصل تم أسرها في البحر المتوسط على يد القراصنة قبل عشرين عاماً من مجيء الحملة، وبيعت في الإسكندرية، ثم انتقل بها إلى القاهرة واشتراها الأمير على بك، حيث جعلها وصيفة أو خادمة لمحظياته، فكانت الأميرة زليمة هي سيدتها التي اعتنت بخدمتها والتي لازمتها طيلة فترة هروبها واختفائها بدمياط، بعد دخول الفرنسيين للقاهرة. 

ظرفية بدء المغامرة العاطفية

ننتقل الآن لتحديد ظروف تعرف الضابط مواريه على الأميرة زليمة، وفهم دلالة اللحظة المعقدة والثقيلة التي قاربت بينهما، أو بالأحرى مهدت لبدء المغامرة الرومانسية في ظروف استثنائية دفعت إليها تطورات الحدث التاريخي نفسه. فالأميرة زليمة كانت بالقاهرة قبل مجيء الحملة، لكنها انتقلت إلى دمياط بفعل الخوف من تهديدات الغزاة بمصادرة القصور المملوكية والقضاء على المماليك، مما أشاع الرعب في الجواري، وهو ما لاحظه الجنرالات وفى مقدمتهم القائد العام الجنرال بونابرت.

وكانت زليمة قد اتخذت قرارها بالهروب والتخفي لدى تاجر تركي بدمياط يدعى “أبو فرو”، كان يعرف زوجها الأمير على بك، وتربطه به علاقة قديمة ومصالح. ومن ناحية الضابط مواريه كانت الظروف كذلك قد دفعت به إلى ذات الواجهة “دمياط”، وذلك إثر ورود استخبارات معلوماتية على استغلال الجيش الأنجلو عثماني الجبهة الشمالية لمهاجمة ثغر دمياط. وحتى بعد تأمين دمياط عسكريا وصدور الأوامر لمواريه بالانضمام للكتائب المحاربة بسوريا، تدخل القدر وأصيب – كما ذكرنا آنفا – بالطاعون فتم عزله ونقله إلى دمياط ليتولى بعد شفائه تأمين المدينة ويستمر دوره بها لعدة شهور، وخلال هذه الفترة سوف يتعرف على الأميرة المملوكية. 

بيد أن الأمر يقتضي أن نعرف ما الذي جمع بينهما في مثل هذه الظروف الصعبة، وجعلهما في لحظة فارقة من هيمنة مشاعر الخوف والألم والرعب من الموت، حتى يلتقيان عند تكوين علاقة عاطفية خاصة وفى ظروف استثنائية إلى أقصى حد؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي تحليل سياق اللحظة النفسية التي مرت بهما، تلك اللحظة المشحونة بكل أجواء اللااستقرار، وغموض المستقبل الذي لا يمكن التنبؤ به.

الجنرال اليائس

لندع مواريه يعبر بصوته عن هذه اللحظة قبل لقائه الأول بالأميرة المملوكية: “إن الموت يحاصرنا من كل جانب، ومصر قد انقلبت بكاملها ضدنا، تريد الهجوم علينا بهدف تحطيمنا تحت ثقل كثافتها الضخمة، وقد كانت هذه النوايا كفيلة أن تجمد الدماء في عروقنا وتقذف الرعب في قلب أي جيش.. إن هذه الحياة الكئيبة التي نحياها في هذا المناخ جعلتنا غير مبالين بموت أو حياة”. وفى موضع آخر يسترسل وفى هذه المرة على لسان رفقائه: “لابد أن الجنون هو الذي دفعهم (أي بونابرت وحكومة الديركتوار) للتفكير في مشروع هذه الحملة، وأن التهور هو الذي جعلهم ينفذونها .. بل أن طموح الجنرال (بونابرت) هو الذي قادنا إلى هنا، فقد جاء ليصنع لنفسه عرشاً من عرقنا ودمائنا”. ومما زاد الطين بلة فشل حملة سوريا وموت الكثيرين من الرفاق بالطاعون دون أن يسعفهم أحد، ثم الخبر الذي زلزل نفسية الجميع هروب بونابرت نفسه تاركاً الجيش في موقف صعب ومأزق لا يحسد عليه وليس هناك من عبر عن الموقف من الجنرال كليبر الذي كتب في يومياته “العصفور طار من القفص”! 

كانت هذه الظروف العصيبة، ومروره بتجربة الموت المحقق (الإصابة بالطاعون والذي شفي منه بأعجوبة)، واستمرارية المغامرة العسكرية من دون حدود زمنية لنهايتها، قد جعلته يفكر طويلا في ذاتيته ومصيره المحتوم في بلد مثل مصر لم يخطر له على بال، وحرب ليس لها علاقة بمجد الوطن أو ثورته المجيدة، ولا يملك في الوقت عينه خيار العودة لأنه مخل بالشرف، والموت قتلا أو ذبحاً أو بالأوبئة خطر دائم وماثل .  كل ذلك جعله يشعر بالاغتراب عن نفسه وأن غاية أمانيه أن تنتهي هذه الحملة ويخرج من هذا البلد (الكئيب)، ويسترد ذاته من سطوة التعليمات العسكرية الصارمة عبر حلم الرجوع إلى فرنسا الوطن.

الجارية المتمردة

أما زليمة فقد وصلت إلى ذات النتيجة لكن بأسبابها وظروفها الخاصة بكل تأكيد، لتلتقي مع مواريه في حلم استعادة الذات والخروج من مصر: فزليمه حكت كيف عاشت مرحلة الطفولة في بؤس شديد وفقر دفع بأهلها، وهي بعد في “تفليس” بجورجيا، إلى نقلها وهي في سن 14 عاماً؛ لتعمل لدى حاكم المدينة كخادمة، ربما لتخفف عن كاهل أهلها نفقات معيشتها، لكنها ذات يوم ستجد هذا الحاكم يدفع بها مع بعض من زميلات لها ليد تاجر أرمني، يتكشف لهن بعد قليل أنه أجرى صفقة تبادل، تم بمقتضاها شراء جارية حسناء بهؤلاء الخادمات. 

شكل هذا صدمة كبيرة لزليمة وصحابتها، إذ فقدن على أثرها حريتهن وتحولن إلى جواري، تم عرضهن للبيع بأسواق النخاسة بإستانبول، وهناك صدمت زليمة للمرة الثانية إذ بيعت كل زميلاتها سوى هي التي بسبب جسمها (غير السمين) لم يقبل الأتراك على شرائها، ما اضطر التاجر الأرمني وهو يوبخها أن يسافر بها إلى القاهرة لبيعها هناك، وباعها بسعر زهيد حتى يتخلص منها، فكان أن اشتراها الأمير على بك وضمها لحريمه. إن وضعية تحول زليمة إلى جارية لم تختلف كثيراً عن  مئات الحكايات التي سردت قصة مجيء الجواري من جورجيا عبر إستانبول إلى مصر، ربما الجديد في قصة زليمة أنها لم تُخطف كعادة غيرها من الأطفال الجورجيات في لحظة غفوة من الأهالي، ولكنها وقعت فريسة صفقة دنيئة غيرت مجرى حياتها وللأبد.

وبرغم إعجاب على بك بجمالها إلا أنه قرر ألا يقترب منها “حتى تسمن”، جعلتها هذه النظرة الدونية إلى جسدها تستنكر من دون قدرة على البوح بموقفها أو رفضها. وكم كانت تتألم وهي تحكى ممتعضة من سلوك هؤلاء البكوات المماليك ومدى شغفهم بالجواري السمان “ذوات كتل اللحم الكبيرة” على حد تعبيرها. شعرت بالمهانة جراء اختزال كيانها وذاتيتها في صورة جسد، جسد يسعون إلى تربيته حتى يصبح مهيئا للالتهام أو الاستخدام. وتنتهي في حديثها إلى القول:” إن مثل هؤلاء الرجال لا يحتفظون بالنساء في حريمهم إلا كما يحتفظون بالأشياء الفاخرة”. 

أعطى لها هذا إحساسا بالمرارة وزادت أحزانها جراء ما شاهدته داخل الحرملك من حياكة مؤامرات النساء ومن ممارسة ” أساليب القمع”؛ فتصف المراقبات بالحرملك ” بمجموعة من السفلة” ليس لهن من دور سوى “مراقبة جميع تحركاتنا ونظراتنا وهمساتنا”. وسردت يوماً لمواريه واقعة لإحدى الجواري الشركسيات من زميلاتها بالحرملك، تم فصل رأسها بضربة سيف لوشاية أحد العبيد المراقبين، وهو ما أثار في نفسيتها رعباً لم تستطع التخلص من مشهده ، لكنه ظل الهاجس الذي يدفعها إلى تأمل حالتها بالحرملك؛ ومن هنا بدأت تكون وجهة نظر واقعية في تحليل وضعيتها داخل الحرملك:” إنهم لا ينصتون لأناتنا التي علينا تحملها دون أدنى همسه. وأما الغيرة وعدم الثقة والعلاقات المزيفة والاتهامات الجارحة والسخرية اللاذعة فيصنعون من الإقامة في الحريم شيئاً أسوأ من الجحيم”.

حلم الحرية

 كل ذلك جعل زليمة– على عكس كثير من أميرات الحرملك المملوكي الذين شعروا باضطراب حياتهم بسبب الاحتلال – تجد في مجيء الحملة الفرنسية انفراجه لواقعها المأزوم. لذلك نجدها تعرب صراحة عن أنها لم تأسف على قتل زوجها الأمير على بك في معركة الأهرام، بل نجدها تفضي لمواريه :” فإن كان الفرنسيون لم يقدموا أية خدمة سوى التخلص من هذا الطاغية (زوجها) ، فسأظل مدينة لهم بها إلى الأبد”. وبررت عدم أسفها هذا بأنه “لم يربطها بسيدها سوى علاقات الخوف والرعب”، واعتبرت حياتها في ظل النظام العبودي بالحرملك أخطر كارثة حلت بها ، وهى التي عاشت بين جدرانه خمس سنوات من العذاب، فالعقاب كان يقع بهن لمجرد أخطاء وهمية؛ تهمس بها المحظية الأولى في أذن السيد ” فكان يتم ضربنا بالعصي، وهو ما قد يفضي أحيانا إلى موتنا”. لقد كانت كلماتها التي حكت بها عن عالمها داخل الحرملك تقطر مرارة إلى حد وصفت المكان بصيغة من المبالغة المعبرة عن كراهيتها الشديدة له بأنه ” أسوأ من الجحيم”!

ووفقا للمعطيات التاريخية الراهنة على الأقل، من الصعوبة بمكان تعميم هذه الصورة بملامحها التي رسمتها زليمة لحياة يصعب التكيف مع قيمها ومنظومتها السائدة داخل الحرملك المملوكي، فالأقرب أنها عبرت عن حالتها الخاصة، أو في أقصى التوقعات، جسدت تطلعات شريحة محدودة داخل الحرملك. وفعل ” الهروب” المعبر عن رفض شديد للواقع وتطلع إلى تغيير الوضعية القانونية، والانسلاخ كلية عن فضاء الحرملك عبر استبدال مجتمعها بمجتمع مغاير، لا نجد لها صدى واسع في الوثائق والمصادر الأدبية المعاصرة ؛ بل إننا نجد نصاً للجبرتي يحكي فيه وصول “جواب من المماليك” المتصارعين على السلطة  ضد حزب مملوكي آخر مؤيد من استانبول ، حيث عرضوا عليهم ” أن يمنحوهم مناصب في غير الإقليم المصري يتعيشون فيها بعيالهم وأولادهم وما شاءوا من مماليكهم واتباعهم”، فجاء جواب الرسالة من هؤلاء المماليك (مراد بك/ إبراهيم بك):” إننا ممتثلون لجميع ما تؤمرون به ما عدا السفر إلى غير مصر، فإن فراق الوطن صعب”. 

إن فكرة استبدال مصر بوطن مغاير لم تكن سهلة بالنسبة لكثير من المماليك عبيدا كانوا أم جواري. وثمة حادثة مماثلة إلى حد كبير لفكرة هروب زليمة لكنها تتناقض معها في فكرة البحث عن وطن بديل، ومصدرنا في هذه الحادثة رسالة لأحد علماء الحملة الفرنسية ، وهو العالم الرياضي الفيزيائي جان –بابيتيست فورييه Jean-Baptiste Joseph Fourier، كان قد كُلِفَ بأن يلتقي بالست نفيسة (زوجة مراد بك) ليرد إليها جاريتين مملوكيتين، هربتا، في بدايات الحملة، من حريم قصرها(أكبر حرملك القصور المملوكية) وارتبطتا بجنرالين كبيرين (هما الجنرال كليبير Kléber القائد العام للجيش، والجنرال دوجا Dugua حاكم القاهرة)، وعند نهاية الحملة رفضتا السفر صحبة الفرنسيين، وآثرتا العودة للحرملك، وتحددت مهمة فورييه أن يتوسط لدى الست نفيسه لتعفو عن هاتين الجاريتين؛ بيد أن الست نفيسة أعربت له في البداية عن استنكارها لهذا السلوك الشائن، وخاصة أنه صدر عن كبار الجنرالات، وأفهمته أن هذا التصرف المعيب في تغيير سادة الجواري ينافي منظومة القيم والعادات المملوكية، كما عابت على الجاريتين هروبهما وتغيير سادتهما بهذه الطريقة الفجة، لكنها في النهاية قبلت وساطة العفو الفرنسية وردت الجاريتين لحريم قصرها. هناك أيضاً كثير من النسوة اللاتي رفضن الانصياع لأزواجهم لفكرة مغادرة مصر والسفر إلى فرنسا، فالفرقة القبطية التي كونها الجنرال يعقوب القبطي، لم ترض القبطيات بالسفر معه، وقاموا بعمل مظاهرة بكائية شقوا بها شوارع القاهرة إلى الجنرال بليار (حاكم القاهرة)، يقول الجبرتي: “بكوا وولولوا وترجوه في إبقائهم عند عيالهم وأولادهم.. فوعدهم بأن يرسل إلى يعقوب أنه لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه”. ولذلك سوف تشهد هذه الفترة حركة من تطليق الزوجات الرافضات للسفر. ومما له دلالته أن عدداً من أولئك الذين ارتضوا بالسفر مع الفرنساوية بعد وصولهم لساحل أبو قير، شق عليهم فكرة الاغتراب عن الوطن فقرروا عدم ركوب السفن والعودة للقاهرة. ولذلك لم يسافر سوى قلة محدودة للغاية، وقد أورد نابوليون في مذكراته جدولا إحصائيا بالخارجين من مصر من مختلف الجنسيات، فمن بين 4000 قبطي ويوناني وسوري، كان عدد المصريين (أقباط ومسلمين) من بينهم 870 مصرياً.

العبيد النبلاء

وإذا كان الأمير على بك، في حالة زليمة، ممثلاً للسيد ” الطاغية ” – كما وصفته هي، فإن ذلك ليس بالضرورة حال السادة الأمراء في كل قصور الحرملك؛ فمثلاً كان الأمير مراد بك زوج الست نفيسة يقدر منزلتها ويعاملها برقي، ما جعلها حريصة عليه، وخلال فترة الحرب ضد الفرنسيين لم تنقطع الجوابات بينهما، ولشدة خوفها من احتمالات سقوطه قتيلا في أي من جولاته القتالية ضد الفرنسين، شاركت في عمل وساطة ناجحة للصلح بين الفرنسيين والمماليك، وسجل فورييه في رسالته إلى القائد العام كليبير فرحتها بهذه الخطوة إذ اخبرته بأنها : ﻻ يمكنها أن تستقبل إﻻ بالسرور اقتراحا يميل إلى منع زوجها من القتال، بالنظر إلى أنه قد يهلك في ذلك العمل”. وفى حالات أخرى، نجد خوندات (زوجات أمراء) ممن سافرن مع أزواجهن البكوات إلى الشام لحظة اجتياح الفرنسيين للقاهرة، مات عنهن أزواجهن، قمن بدفنهن بالشام، وحين تحررت مصر من الاحتلال الفرنسي بعد ثلاث سنوات ، قمن بنقل رفات أزواجهن إلى القاهرة، وأقمن لهم مدافن تليق بمكانتهم، كانت هذه مثلاً حالة الست أم أيوب زوجة الأمير صالح بك أمير الحج. أيضا نجد زوجة الأمير إبراهيم بك ماتت عنه بالشام، وحرص هو على حمل رفاتها ودفنها بمقبرة أخيها الأمير محمد بك أبو الذهب بالمدرسة الواقعة قبالة جامع الأزهر. إن هذه الإشارات لا تخلو من دلالة وفاء وتقدير حقيقي لمسيرة علاقة خاصة بين السيد وزوجته الجارية لا تنتهي بالموت. 

ومن الملفت أن عددا كبيرا من الفرنسيين استوقفهم نظام الرقيق المملوكي ؛ حيث أدهشهم أن العبيد يتعاملون معاملة أفضل من معاملة الخدم بل وأفضل حالا من وضعية الفقراء المصريين الأحرار، كما حظيت مفارقة النظام العبودي بين الشرق والغرب باهتمام بونابرت؛ فكتب في مذكراته  أن “العبودية في الشرق لا تقارن بالعبودية في الغرب، ففي الشرق تجد العبودية أقرب لما وصفه الكتاب المقدس، فالرقيق يرثون في ثروة أسيادهم، ويتزوجون من بناتهم، وأن معظم البكوات والباشوات من الرقيق.

في المجمل إذاً يمكن القول بأن زليمة قد عبرت بفلسفة قراءتها لحياتها وتطلعاتها المستقبلية ورفضها للمنظومة الاجتماعية بالحرملك عن شريحة موجودة داخل الحرملك، لكنها لم تمثل ظاهرة واسعة النطاق. وأن مأساتها في فقد حريتها قد قاربت بينها وبين مواريه الذي كانت له ظروف مختلفة لكنها قادتهما معاً إلى رفض الواقع، والرغبة في تحرير الذات من اللحظة الثقيلة التي كانا يمران بها والتطلع من ثم إلى مغادرة مصر.  


الحب في زمن الاستعمار

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s