الجارية للجنرال: الحب عند الفرنسيين كالموضة

الجارية للجنرال: الحب عند الفرنسيين كالموضة

د. ناصر أحمد إبراهيم

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة

اللوحة: للفنـان الألمـانـي فرانـز ونتـرهـولتـر

ميّز كل فترة استعمارية (ومنها فترة الاستعمار الفرنسي لمصر)، وجود نوعين من البشر -المحتل وضحايا الاحتلال – في حيز جغرافي محدد. ولعل دراسة هذا التفاعل بين الجانبين والذي يحتمه منطق الحياة، يقدم الكثير من خلال تسليط الضوء على العلاقات الإنسانية التي تنشأ بين الجانبين، ومنها علاقات الحب لما تتميز به من عاطفة قوية، وارتباط بين أفراد من ثقافات مختلفة، يحتم معه طرح القضايا الخلافية الشائكة بين الجانبين، وبذلك يضع فكرة تمازج الثقافات وقبول كل شخص لهوية الآخر على المحك، بعيدا عن الأفكار الرومانسية والشعارات السياسية البراقة.

تقوم هذه الدراسة التي نقدمها في حلقات على تقديم قراءة تحليلية ليوميات ضابط فرنسي يدعى جوزيف ماري مواريه حول علاقة خاصة كونها مع أميرة مملوكية تدعى زليمه، كانت محظية أحد البكوات المماليك الذين لاقوا مصرعهم أمام الفرنسيين في معركة إمبابة (الأهرام) التي على أثرها يدخل بونابرت بجيشه مدينة القاهرة. 


تناولنا في الحلقة الماضية ظروف تعرف الضابط مواريه على زليمة، فمن جهة كان الجنرال يزداد شعوره بالوحدة وبعبثية الحياة التي سببتها الحرب، ومن جهة أخرى كانت زليمة تحمل إحساساً عميقاً بالمرارة من حياة الحرملك الذي وصفته بأنه أسوأ من الجحيم، وهو ما جعلها ترى في مجيء الحملة الفرنسية أملاً بالحرية والخلاص.

ولذلك بلورت زليمة مخططها بطريقة تتسم بطابع عملي بحيث توقع الضابط الفرنسي في حبائل حبها، وتدفعه إلى الزواج منها، وبذلك تكتسب شرعية استردادها لحريتها التي سيصونها الفرنسيون جراء عدم اعترافهم بالنظام العبودي الساعين إلى تحطيمه منذ المنشور الأول لبونابرت (9 يوليو 1978) الذي ارتأت فيه تعبيرا عن قضيتها، فالمنشور ينتقد النظام العبودي، ويؤكد “بأن الناس متساوون عند الله، وأن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، ماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم، ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة..” أعاد المنشور بالنسبة لها اكتشاف الفرنسيين وموقفهم من قضية المساواة والحرية، وهو ما جعلها تتابع المنشورات التي كانت تعلق طوال الوقت على جدران الأسواق والجوامع. ويكتب مواريه من واقع ملاحظته على أهالي دمياط، وكانت زليمة أحدهم: ” كان لهذا البيان أثر سريع ومحمود، فقد بدد المخاوف حتى أن الأهالي أظهروا لنا مودة عن ذي قبل”. واستقر الحال بزليمه أنه إن بقي الاحتلال الفرنسي للبلاد تكون هي في أمنه وحمايته، وإن فشل حلمهم الاستعماري واضطروا إلى العودة لفرنسا سوف تصطحب مواريه إلى هناك وتقترن به، وعندها تحقق الإفلات من قبضة نظام الحرملك. 

أما هو فقد دفعته الصدفة للتعرف على زليمة، وخاصة أنه كان ملتزما بالتعليمات المشددة من القيادة العامة للجيش بأنه من “المحظور علينا أن ننتهك هذا الحرملك المقدس وإلا كان مصيرنا الموت، لذا كان الوقوع في الحب بالنسبة لي شيئا بعيد المنال”. 

نظرة وتحية عسكرية

لاحظ مواريه سيدة من السيدات الذاهبات للمسجد الرئيس بالمدينة، أنها ترمقه كل يوم وهو واقف بباب مسكنه المجاور للمسجد الكبير فكتب يقول: “لاحظت أن واحدة من بينهن يدل مظهرها على الثراء، كلما مرت أمامي تمهلت ورمقتني ببصرها. كان من الصعب على أن أحكم بمجرد النظر إلى وجهها إن كانت صبية أم امرأة ناضجة، جميلة أم قبيحة، ولكن قوامها الممشوق المشدود برشاقة واثق الخطى جعلني أجزم أنها لم تتخط بعد العشرين من عمرها. أما عن جمال ملامحها فربما أخطئ إن تنبأت، فقد كان من الصعب على نظري أن يخترق الحجاب الذي تغطي به المسلمات وجوههن. وتركت للزمن والصدف فرصة معرفة هذا الموضوع. وذات يوم، وهي في طريقها كالمعتاد إلى المسجد، إذ بها تمر قريباً جداً مني، فتشجعت وحييتها كما يحيي الجنود الفرنسيون ضباطهم حينما يلقونهم، بأن وضعت يدي أمام جبهتي، وحرصت على أن تكون هذه التحية مشفوعة بابتسامة ودود. فما كان منها إلا أن حملت يدها اليمني ناحية قلبها، وأفهمتني بهذه الإشارة أنها فهمت”. وعند المساء جاءه “رسول الغرام” خادمتها الفرنسية، التي جاءته تستطلع موقفه بعد أن أبدى لسيدتها التحية في الصباح.

وبرغم أنه حسم الموقف سريعا مع الخادمة المارسيلية بأنه قبل عرضها حيث أبلغها: “قولي لها إنني وقد أمضيت عاما في مصر فقد تعلمت التحدث بالعربية كأهل البلد، وإنني ملكها لو حالفتني السعادة ورقت لها”. إلا أنه مع ذلك كان مترددا ومتخوفا من هذه العلاقة المحفوفة بالمخاطر، وبعد حوار داخلي(مونولوج) يقبل المغامرة، ويقول لنفسه:” إنني اشعر بالحاجة لأن أحِب وأن أُحَب. فمن يدريني، إذا ما استعمرنا بالفعل هذا البلد وأقمنا به، فهذه زوجة جاهزة سوف تقدم لي الثروة وكل الرضى مهرا لي”. وازداد قناعة بهذه الخطوة بعد أن دبرت هي لقاءاتهما بوكالة التاجر التركي أبو الفرو (زوجها الصوري) الذي اتفقت معه على أن يدعى الضابط مواريه إلى الوكالة بسبب وجيه، وهو أن يدعوه لتعليمها بعض دروس في الحساب واللغة الفرنسية، لأنه ليس أمامه سوى الأقباط واليونانيين، وهؤلاء “إما يخدعوني أو يسرقوني، وزليمة التي أحافظ عليها كابنتي لها استعدادات طيبة.. وسوف يعينني هذا على أن أعهد بحساباتي ومراسلتي مع التجار الفرنسيين”. وهنا فهم مواريه كيف أحكمت زليمة تدبير لقاءتهما الغرامية داخل الوكالة وبعيداً عن عيون المراقبين، مما جعله يطمئن بل ويسعد لحسن تدبيرها، ويطلب من فوره من أبو الفرو “بدء الدرس الأول”. 

ملامحها اخترقت القلب الحديدي

لنترك مواريه يصف لقاءه الأول بها: “لن أحاول وصف ما اعتراني حينما رأيتها وجهاً لوجه – تلك التي كنت ألمحها وكأنها خلف السحاب- ولا أن أعبر عن الكيفية التي أبديت لها بها أمنياتي وحبي. في هذه اللحظات الأولى، لم نتفوه سوى بعبارات متقطعة، تصف ولا تعبر عن المشاعر. ففي هذا اليوم علمتها بعض مبادئ الترقيم والجمع، بدون تركيز من جانبي أو من جانبها، بسبب اضطرابنا، وبعد حين، وخاصة أن التاجر لم يكن موجوداً، بدأنا نتحدث بحرية أكثر عن مشاعرنا، وعن قصتها التي حكتها (يقصد حياتها في مجتمع الحرملك). وعاد إلى مسكنه وهو في غاية السعادة ، لقد وجدها حسناء تتمتع فوق ذلك ببهاء الشخصية، وكتب في يومياته واصفاً إياها: “كانت ملامحها كفيلة باختراق قلب حديدي” وأن جمالها يفوق جمال الباريسيات.

إذن كلاهما فكر في “الحب” بمنطق مختلف، كلاهما اتخذ من الحب وسيلة لتجاوز الواقع المأزوم في أعماق كل منهما وفي لحظة تحدي فارقة: فهي تسعى إلى استبدال عالمها العبودي في مجتمع الحرملك المغلق بعالم تحلم به، تسترد فيه حريتها وخلاصها، وظرفية الغزو الفرنسي صنعت – كما ترآى لها – فرصة عظيمة فقد تساعدها على تغيير وضعيتها. وهو من جانبه يريد انتشال نفسه من الإحباط المتراكم، وكآبة الأيام الثقيلة، والتغلب على الظروف القاسية للحرب، وما أشاعته في نفوسهم من أفكار سوداوية بأن حيواتهم لا تعدو ثمناً زهيداً في التضحية بهم من أجل مغامرات جنرال طموح مثل بونابرت، ولخص مواريه انتقاده له بعبارة دقيقة فاضت بحزنه واستيائه، وخاصة جراء سوء معاملة المصابين من الجنود والضباط بالطاعون الذين تركهم الجنرال بونبارت بالصحراء دون أن يسعفهم؛ وبعضهم كانوا من أفراد كتيبته، يقول مواريه: “علمت مصير المصابين بالطاعون الذين اضطروا لتركهم في الطريق.. يا للأفكار المشؤومة، أيتها الإنسانية، هل كان للفرنسيين أن يُهينوك وراء البحار، طموح مشؤوم وسياسة جهنمية أن ترتوي من الضحايا الأبرياء”. وبعيداً عن تناقض توجهاتهما، فإن كلا منهما عبَّر، بهذه العلاقة، عن رغبة حقيقية في الحياة. 

المكاشفة بالحب

أبدى مواريه لزليمه تعاطفاً تاماً مع قضيتها، وكتب في يومياته: “تأثرت بما لاقته، ورق لها قلبي، بعدما سمعته منها (عن وضعيتها داخل الحرملك)، وعاهدتها أن أفعل ما بوسعي لانتزاعها من هذه التعاسة التي تنتظرها بمصر إذا ما خرج الفرنسيون”. 

والحق أنه كان وفياً لها، حيث تكتم على سرها معه، فجنبها الاعتقال ومصادرة ثروتها، وذلك بالنظر إلى مقتل زوجها الأمير علي بك على يد الفرنسيين، وكونها هاربة، ونجد في الجبرتي نصاً يؤكد ذلك: فالأمراء الذين قتلوا في معركة إمبابة، عشية دخول القاهرة، كانت تصادر قصورهم في الحال، يقول الجبرتي: “أخذوا البيت بما فيه من فرش ومتاع وجواري وغير ذلك”. واضطر بونابرت إلى وضع ضريبة “مال المصالحة” لقاء حماية الحريم القابعات بالقصور وعدم مصادرة أموالهن وتأمين قصورهن واستثنائها من الأملاك المملوكية المصادرة. 

تعهد مواريه لزليمة بأن يساعدها في الخروج من معاناتها دونما أن يلحقها أذى، وأن يدعمها في تحقيق حلمها في التحرر من العبودية. لكنه طالبها فجأة بأن تكافأه على وعوده لها، بأن تثق فيه وأن تمنحه نفسها، لكنها ردته إلى ضميره بأن ذلك لن يكون قبل الزواج، ولنستمع إلى ردها القوي: “للأسف، لا أستطيع أن اعتمد على وعودك إلا إذا ختمت بخاتم الدين وسلطة الشرع. انا أعرف كم تتبدل أحوال الفرنسي، فسرعان ما يشتعل الحب في قلبه، لينطفئ بمجرد أن يروى ظمأه؛ فالفرنسيون في حبهم كما في موضاتهم يغيرونها كل يوم”. لم تكن لتجعل جسدها مرة أخرى يجرى احتلاله كما احتل الفرنسيون البلاد.


الحب في زمن الاستعمار

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s