اليهود والغجر.. جسور الموريسكيين للخروج من محنتهم

اليهود والغجر.. جسور الموريسكيين للخروج من محنتهم

د. جمال عبد الرحمن

اللوحة: «خروج الموريسكيين» للفنان الإسباني غابرييل بويج رودا

كلنا يعرف ديوان لوركا، شاعر غرناطة العظيم، الذي نشره تحت عنوان «قصائد غجرية» Romancero gitano. الديوان كله يتحدث عن الغجر ومآسيهم وأساطيرهم. ليس فيه شيء خلاف ذلك. الشيء الغريب أن لوركا يقول في مقدمة الديوان «أردت أن أخرج إلى الضوء بعض البنات المسلمات اللاتي كن يلعبن في هذه الشوارع، شوارع غرناطة»، ويحتار المرء، فليس في الديوان مسلمات. أين الحقيقة إذن؟ يدفعنا البحث إلى القرن السادس عشر، حين أرادت السلطات الكنسية أن تراقب أداء الموريسكيين للصلوات المسيحية، ومواظبتهم على حضور الوعظ في الكنائس، فكانوا يسجلون أمام اسم الشخص ما يفيد أنه حضر أو تغيّب، وكان من يتغيب يدفع غرامة مالية، ويكلف بأداء صلوات أخرى. كان كل موريسكي يجتهد في لإفلات من حضور الوعظ: بعضهم كان يتصنع السّعال المتواصل حتى يطرده القسيس، وبعضهم كان يلجأ إلى حيل أخرى. من بين الحيل التي لجأ إليها بعض الموريسكيين كان الانضمام إلى الغجر وحياة الترحال. لم تكن الكنيسة تراقب الغجر، لأسباب كثيرة منها عدم استقرارهم في مكان واحد، لذلك فإن انضمام الموريسكى إلى الغجر كان يعني تحرره من مراقبة الكنيسة. على أن الموريسكى الذي انضم إلى الغجر أضاف إليهم أغنياته وموسيقاه. لهذا فإن موسيقى الفلامنكو إنما هي أحد آثار انضمام الموريسكيين إلى الغجر، وفيها أثر أندلسي واضح. 

ذات مرة، اشتركت في مؤتمر عن لوركا، وألقيت محاضرة عن الموضوع، وقال لي الأستاذ خيل غريماو إنه سيرد على محاضرتي في اليوم التالي، وقد فعل الرجل، وحكى أنه ذات يوم كان مع شاب غجري في حي البيازين، وعرف منه أنه مسلم أبا عن جد، وأنه من نسل الموريسكيين الذين لم يغادروا إسبانيا. إذن فقد كان لوركا يعنى ما يقول، لأن الحديث عن برثيوسا الغجرية يشير أيضا إلى عائشة الموريسكية. لم يكن المشهد الموريسكى إذن مظلما تماما، بعد أن تحدثنا الوثائق عن دعم النبلاء واليهود والغجر لهم. 

دول ساعدت الموريسكيين

تتصارع الدول في المشرق والمغرب لأسباب شتى. ومن الواضح أن الاختلاف الديني لم يكن دائما سبب الحروب، فقد تصارعت الدول الإسلامية فيما بينها، وتصارعت الدول المسيحية فيما بينها كذلك، وفى حالة الصراع تستغل كل دولة الظروف الداخلية في الدولة الأخرى. 

في القرن السادس عشر كانت إسبانيا تخوض حروبا في أوروبا، خاصة ضد فرنسا، وكان من الطبيعي أن تحاول فرنسا استغلال الموريسكيين لصالحها، في مقابل تحسين وضعهم. دخل الموريسكيون في مفاوضات مع فرنسا، وعرضوا على ملكها أن يزرعوا الأرض البور ويدفعوا له ما يشاء، في مقابل أن يسمح لهم بأداء الشعائر الإسلامية. القانون الإسباني آنذاك كان يمنع خروج الأطفال الموريسكيين إلى دولة إسلامية. لذلك كان الموريسكى يطلب السفر – مع زوجته وأطفاله – إلى فرنسا، ومن فرنسا كان يسافر إلى المغرب. كانت فرنسا محطة لا غنى عنها للموريسكي الذي يريد النزوح إلى المغرب أو الجزائر أو تركيا (كانت تركيا على علاقة وثيقة مع فرنسا آنذاك، وقد بذل الأتراك جهودا مضنية من أجل نصرة الموريسكيين، استغلوا فيها علاقتهم الطيبة بفرنسا ووجودهم في الجزائر، وما تخلّف الأتراك عن مساعدة الموريسكيين إلا لأعذار قهرية، فقد كانوا يحاربون في جبهات عديدة). 

مبلغ علمي، اعتمادا على أبحاث موثقة، لم تبذل دولة إسلامية عربية في سبيل مساعدة الموريسكيين ما بذلته الجزائر. لم يكن يمر يوم دون أن تكون هناك سفينة جزائرية تنتشل الموريسكيين الراغبين في الهروب من إسبانيا، وكان هناك تنسيق بين الجزائر ومسلمي فالنسيا، لدرجة أن المتحكم الفعلي في فالنسيا لم يكن ملك إسبانيا، بل حاكم الجزائر. أضف إلى ذلك جهود المغرب (كانت مدينة تطوان آنذاك أندلسية موريسكية، فقد أعاد أبو علي المنظري الغرناطي تأسيسها قبل سقوط غرناطة بعقود، واستقبل فيها بنى وطنه الموريسكيين). انطلق الموريسكيون من تطوان في حملات جهاد بحري استمر طويلا. لجأ الموريسكيون إلى الجميع تقريبا، وكانت إجابة البعض محبطة: سلطان مصر، على سبيل المثال، اكتفى بإرسال ما يمكن أن نسميه “رسالة شجب واستنكار” إلى فيرناندو، ولم يكن أمام السلطان في الحقيقة خيارات كثيرة، فقد كانت المجاعة تهدد مصر وسوريا آنذاك، وكان الحصول على القمح مطلبا ملحّا (قيل إن إسبانيا كانت ترسل القمح إلى مصر) ما أريد أن أسجله هنا هو أن العالم الإسلامي لم يتخل عن الموريسكيين، لكن الظروف لم تكن تسمح للجميع بالمساعدة. أما الجهد الرائع الذي بذلته تونس في استقبال الموريسكيين فسنبحثه في مقال آخر.


هل الرواية العربية عن فتح الأندلس صحيحة؟

هل كانت الأندلس الفردوس المفقود؟

هل حدث الفتح الإسلامي للأندلس؟

أكذوبة تخلي آخر ملوك الأندلس عن حقوق المسلمين

المسلمون بعد سقوط غرناطة.. رؤية مختلفة عما دونه المؤرخون العرب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s