الطاهر مكي.. مواقف وآراء سياسية

الطاهر مكي.. مواقف وآراء سياسية

حنان عبد القادر

اللوحة: الفنان الفلسطيني خالد شاهين

في هذه المقالات تتناول الشاعرة والكاتبة حنان عبد القادر شخصية الدكتور الطاهر مكي «عميد الأدب الأندلسي»، وتتبع أهم المحطات التي شكلت توجهاته العلمية، وتبرز الطاهر الإنسان القادم من قرية في صعيد مصر إلى رحاب العالمية، وفي هذه المقالة تتوقف الكاتبة عند توجهاته السياسية وآرائه ومواقفه في هذا الجانب.


اليسارية في حياة مكي

تلقى الطاهر مكي دراسته في الأزهر، دخله حافظًا للقرآن ودارساً لعلوم اللغة والشعر، ولم يجد تناقضا بين ذلك وبين التحاقه بحركات اليسار، فقد التحق بحركة “حدتو”(١) اليسارية عندما كان يدرس في القاهرة وانسحب منها عام 1948، وفي هذا الصدد يقول: 

“انخرطت في جماعات اليسار في القاهرة التي كان بها على ما أذكر ثماني جماعات منها طبعًا “حدتو” التي كنت بها، وكانت الجماعات تنظم على أساس الخلايا، كنت عضوًا في خلية مهمة.

 وكانت بالأزهر حركة يسارية قوية يشرف عليها فاضل المبارك وهو أحد أبناء النوبة، كنا نهرب من الدراسة التي تتعطل كثيرًا بسبب المظاهرات السياسية إلى المقاهي أو ندوات اليسار.

يقول الأستاذ عبد النور خليل، الناقد السينمائي والفني بدار الهلال عن ذكرياته مع الطاهر مكي في تلك الحقبة:

“صداقتي لطاهر مكي بدأت ونحن في العشرين من العمر.. كنت أعمل سكرتيرا مساعداً لجريدة «الكتلة» لسان حال الكتلة الوفدية وزعيمها مكرم عبيد، وكان طاهر مكي طالبا في كلية دار العلوم، وزاملني مصححا في الجريدة. ولم يكن مجرد شاب صعيدي جاء من بلدته كيمان المطاعنة ليلتحق بالأزهر، بل تميز بأنه قارئ ممتاز يصب من الثقافة الغربية على اتساع.

 كنا في تلك الحقبة نبحث عن هوية، وكان طاهر مكي مفتونا بشعراء المقاومة الفرنسية وعلى رأسهم بول إيلوار وكان يحفظ عن ظهر قلب قصيدته «عيون الشرا» وكنا نحفظ الكثير من عيون الشعر العربي خاصة قصائد امرئ القيس، كانت قصيدة شاعرنا ومثقفنا الكبير الراحل عبدالرحمن الشرقاوي «من أب مصري إلى الرئيس ترومان» تأخذ الكثير من وقتنا نقاشا واهتماما وجدلا في شكلها الشعري ومضمونا السياسي.”


إن هذه الفترة من حياته دفعته إلى القراءة والتثقيف والاطلاع الواسع، ورغم تركه للحركة الشيوعية في العام 1948 بالتزامن مع إعلان “إسرائيل” ورفضه المواقف الملتبسة للحركات الشيوعية في ذلك الوقت، فقد صار في السبعينيات رئيسا لتحرير أول مجلة نقد يسارية في مصر هي مجلة أدب ونقد، غير أنه اشترط عدم انتهاج المنهج اليساري فيها، فلا تكون المجلة يسارية صرفة، “بمعنى أن يتم نشر الإبداع ليس لأنه شيوعي أو يساري، بل لأنه يستحق النشر، تلك الفترة التي أعقبت وصول الرئيس أنور السادات للحكم عام 1970، والتي أراد فيها التوفيق بين جبهات اليمين واليسار، ليكسب القاعدة الشعبية العريضة. 
وإذا نظرنا في أعمال مكي نرى أنه لم يتخذ في كتاباته منهجًا يساريا، ولم يتبن النظريات اليسارية.

مكي والإخوان المسلمون

في الحقيقة، إن اتجاهات مكي السياسية لم تكن موالية لتيار دون آخر، إنما نجده يتبع ما يؤمن به، وما يتفق مع مبادئه العميقة، فإذا اكتشف ما يتعارض مع تلك الأخلاقيات، انصرف غير آسف، فهو لم يجنح لما آمن به في بداية نشاطه السياسي كل الجنوح، بل نجده يرفض اتجاهات التيار الشيوعي وينفصل عنه عندما لم يتوافق مع اعتقاداته العميقة، وينفتح على الجماعات والتيارات السياسية الأخرى دون الانخراط فيها والتي كانت تعتبر مكونا هاما من مكونات المجتمع المصري آنذاك، والتي سعت سياسات الحكومة للتوفيق بينها، وقد كون مكي نظرته من خلال التعاطي الموضوعي مع ذلك، فأوضح وجهة نظره بانفتاح وجرأة تعطي – من وجهة نظره- كل ذي حق حقه، ومن أبرز تلك التيارات، جماعة الإخوان المسلمين.

ويبين مكي علاقته بزعيمها ومؤسسها حسن البنا في مقال نشره تحت عنوان: “صورة إنسانية بعيدة عن السياسة.. حسن البنا كما عرفته” يقول في بعضه:

لم أكن أدرك – يوم رأيته للمرة الأولى في قرية نائية من قرى مركز إسنا – شيئًا مهمًّا عن السياسة والكفاح ومساوئ الاستعمار، ولكنى أيضًا، لم أكن بعيدًا عن ذلك، فقد كنت من نابهي الأطفال ولا عمل لي غير القراءة وحفظ القرآن الكريم، وقد أمضى حسن البنا زيارته يصلح بين المتخاصمين، ويجمع الناس محاولا أن يحل مشكلاتهم الاقتصادية والعائلية، وأن يصرفهم عن بعض ما يقومون به من عادات، كالثأر والتشاحن والعصبية القبلية”.

وفي عام 1940م ضجت قنا بالحركة والجند والسلاح والسيارات والمصفحات، جنود جاءوا من شتى أطراف الدنيا، من بريطانيا، والهند، ودول أفريقية وأستراليا وأوروبا، وألوف من العمال المصريين معهم، يعملون في مد خطوط السكك الحديدية والكهرباء والماء بين قنا والقصير على البحر الأحمر، فقد اندلعت الحرب العالمية الثانية قبل ذلك بعام، وعانى الإنجليز من هزائم مريرة في شمال مصر على الحدود الليبية، وحصارًا عنيفًا في البحر المتوسط؛ إذ سيطرت عليه الغواصات الألمانية والإيطالية، فأرادوا أن يتلقوا إمداداتهم عن طريق البحر الأحمر، وهو أكثر أمنًا لهم، ويتيح لهم الانسحاب بخسائر أقل في حالة الهزيمة الكاملة.

وجاء الجنود معهم بكل الأمراض: الجريمة، والسوق السوداء، والسرقات، وأزمة الإسكان، والتضخم، وقلة الموارد التموينية، والملاريا، وكان منظر الجنود السكارى في آخر الليل يثيرنا، ويلهب في أعماقنا الحماسة والتمرد.

في تلك الأيام أحسست، وأنا على أبواب الشباب أن جمعية الشبان المسلمين مكان طيب لقضاء الوقت، والتدرب على الخطابة، وفى ذاكرتي صورة هذا الرجل العبقري الذي رأيته في ديواننا منذ عامين، ولكن بلا غايات سياسية واضحة وصريحة.

وفى 20 مايو 1941م أصدر حسين سرى رئيس الوزراء قرارًا بنقل حسن البنا من مدرسة عباس الأول الابتدائية بالقاهرة إلى مدرسة قنا الابتدائية، وبعد شهر واحد كان أحب الأساتذة إلى كل تلاميذ المدرسة بلا استثناء.

ولم تمض غير شهور قليلة حتى أحست إنجلترا المستعمرة، والحكومة المصرية التي كانت تتحرك في إطارها – أن حسن البنا في الصعيد أخطر منه في القاهرة، فردته إلى القاهرة من جديد.

في 9 أكتوبر 1944م وصلت القاهرة، وهي تموج بالمظاهرات، فقد أقيلت وزارة الوفد بعد صراع مرير مع القصر الملكي، وجاء فاروق بأحمد ماهر باشا رئيسًا للوزراء.

كان البنا كما رأيته نموذجًا لا يتكرر بسهولة، سلوكه ينسجم مع فكره ومواقفه تتفق وما يدعو إليه، كان الرجل مخلصًا شديد الإخلاص، وشغل حبي له – وإيماني به قائدًا ملهمًا – الجانب الأكبر من تفكيري يومها، على أن شابًّا في مثل سنى، لم يكن يساق بما يعرف فحسب، وإنما يستجيب أيضًا لنبض القلب، وأمور القلب لا تخضع دومًا لحكم العقل، ومن ثم لم أكن – على بساطة تجربتي وتفاهتها – راضيًا عن مواقف عدد من كبار الإخوان.

وعن وضع المثقفين والأكاديميين في الحراك السياسي يقول:

اليساريون الحقيقيون لا يظهرون على الساحة الآن، لأن السلطة لا ترضى عنهم فهي تريد يساريا يعمل ما يطلبون، ولا بأس أن يرفع راية الاشتراكية، وتريد إسلاميا يفتي لكن في النهاية هو مع النظام، هؤلاء هم الذين تريدهم السلطة لكن لا تريد إسلاميا يخالفهم، أو يساريا مثل الذين يكافحون تحت الأرض.” 

بابلو نيرودا عند مكي

 كان الطاهر مكي منحازا إلى شعراء المقاومة الفرنسية أيام سقوط باريس في الحرب العالمية الثانية، وكان أكثر انحيازا لفردوسة المفقود “الأندلس” وثقافتها وما كتب عنها ولها، و قد منحه انتدابه مدرسا للحضارة الإسلامية في كولمبيا التعرف عن كثب إلى أدباء أمريكا اللاتينية العظام مثل ماركيز وبابلو نيرودا، وهو من أوائل من فتحوا عقول المثقفين المصريين عليهم.

ففي عام 1974 كتب عن شاعر الخبز التشيلي بابلو نيرودا كتابه “بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال”. الذي يتوافق إلى حد ما مع نظرية الثائر الكوبي تشي جيفارا، الذي لم يشغله قتاله ضد الديكتاتورية في كوبا عن الحديث في الحب والموسيقى.

يقول مكي عن نيرودا: “نيرودا كان شاعرًا عبقريًا وكان يساريًا حتى النخاع، كتب أفضل قصيدة عن الثائر فيدل كاسترو، ولكنه كتب أيضًا بعبقرية في الحب. وأذكر أن كتابي (نيرودا شاعر الحب والنضال) كان أول دراسة في العربية عنه فلا أعرف في العربية دراسة أخري تتناول حياة نيرودا، ولقد نشرت له عدة قصائد مترجمة، ولعلي بذلك أقدم صورة تقريبية لشاعر عظيم”

ربما كان هذا هو وجه الشبه الذي رآه مكي بين قصائد نيرودا، وابن حزم الأندلسي في الغزل، وأن ما يجمعها هو شفافيتهما في العشق.

وتقول منى عبد العظيم: إن هناك نوعا من الإبداع لا يتناوله الكتاب والأدباء إلا القليل منهم، وهو السير الذاتية فعندما قرأت كتاب “بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال” ذكر د. الطاهر مكي أن هذه الدراسة لهذا الشاعر تعد الأولي من نوعها في مصر.

ترجم مكي بعض قصائده مبينا إعجابه بالجانب النضالي فى حياته، فقد اتخذ جانب المضطهدين والفقراء المناضلين من أجل حياة أفضل، فهم مصدر إلهامه، اختار منذ جرت يداه بأول بيت شعر الجانب العملي فى النضال، ولم يبدد إبداعه وعبقريته في متاهات الجدل العقيم، وعندما حصل على جائزة نوبل وكان سفيرا لشيلي في باريس ترجمت أشعاره إلى جميع اللغات العالمية وأصبحت تباع بكميات هائلة وحقق ثروة طائلة، فقرر أن يتنازل عن راتبه لدولته وأصبحت سفارة شيلي في باريس محطة ثقافية مهمة في عاصمة الثقافة باريس.

مصر والديمقراطية

رأى الطاهر مكي أن مصر تعاني غياب الديمقراطية بشكل واضح، وتتعرض لسلب خيراتها، وإفقار أهلها رغم ثرواتها الكثيرة، يقول: نحن بلد غني وثرواته كثيرة، لكن تم نهبها على نحو لو حدث في أغنى البلدان لأفلست، نحن بحاجة حقيقية إلى مناخ ديمقراطي يتيح حرية الصحافة وحرية الأحزاب ويتيح البث التليفزيوني بأقصى حدوده، ليشعر الناس أن البلد ملكهم وليسوا فيها غرباء، فالشباب يفكرون بالهجرة لأنهم لا يجدون فرصتهم في الحياة الكريمة، ومن هم في سن الشيخوخة يشعرون أن كل الفرص قد ضاعت منهم!

بالإضافة إلى أنه لا توجد أحزاب يطمئن إليها المثقف الحقيقي الذي يريد الخير لبلده، فهي أحزاب ورقية ومخترقة أمنيا، وهي “أعجب أحزاب في الدنيا” فأنا لا أعرف حزبا تدفع له الحكومة أموالا لكي يستأجر مقرا أو يصدر صحيفة، فكل هذه الأحزاب تتلقى إعانات من الحكومة التي يفترض أنها ستعارضها.

ودور المثقفين الآن هو الدور الذي قام به المثقفون في كل تاريخ مصر، المدافعة عن القيم ودفع الحكومات أن تفعل شيئا إيجابيا، لأن مصر إذا لم تتخذ هذا الموقف لن تتخذه أية دولة عربية أخرى، وعلينا أن نوقن اننا حين ندافع عن قضايانا العربية، فنحن ندافع عن مستقبل مصر أيضا.

 لكني أرى تراجعا كبيرا يعود جانب منه إلى المثقفين أنفسهم، فعادة يأتي المثقف من قاع المجتمع ويبدأ متحمسا ونشيطا في مطالبه وسعيه إلى الحرية والديمقراطية، ولكن في طريق سعيه إلى ذلك يقابل من يريدون إطفاء جذوة حماسه من المنتفعين سواء داخليا او خارجيا ولتحقيق ذلك يسعون لـ”قتله شبعا” وإغرائه بالأموال والمناصب والأضواء فالبعض منهم ينسى تاريخه السابق، والبعض الآخر يراوغ لتحقيق مكاسب أكبر ولا نعرف له لونا محددا.

ولذلك نحن في حاجة إلى مثقفين جدد لهم موقف ولا يبيعون أنفسهم، وفي حاجة إلى إلزام المجتمع باحترامهم، ولن يعود لمصر مكانتها إلا عبر الديمقراطية، التي تعد في أفظع شروها اقل من أدنى مساوئ الديكتاتورية التي نعيش فيها الآن.


(١) حدتو وهي الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني هي من المنظمات الشيوعية المصرية، ومثلت الاساس السياسي لامتدادات عديده متضمنه الحزب الشيوعي المصري اليوم.


المقالات السابقة:

رأي واحد على “الطاهر مكي.. مواقف وآراء سياسية

  1. يسعون لـ”قتله شبعا”.. تعبير مدهش… جميل أن تكون الشخصية بهذا الثراء .. الأحداث التي في المقال قرأت عنها من زوايا مختلفة فكان هذا المقال زيادة في تسليط الضوء من زاوية جديدة.. وخاصة التأثير البريطاني على الصعيد في الحرب العالمية الثانية .. وأدهشني التعاطف الإنساني له شعراء المقاومة الفرنسية، رغم أن موقف الفرنسيين من تحرير الجزائر كان ظالما ودمويا . .. شكرا على هذا المقال المفيد والملهم. تحياتي وتقديري

    إعجاب

اترك تعليقًا على أيمن جبر إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.