المسلمون بعد سقوط غرناطة.. رؤية مختلفة عما دونه المؤرخون العرب

المسلمون بعد سقوط غرناطة.. رؤية مختلفة عما دونه المؤرخون العرب

د. جمال عبد الرحمن

اللوحة: «مسجد قرطبة الكبير» للفنان الأميركي ادوين لورد ويكس 

تقد م لنا الوثائق مشهدا آخر للموريسكيين (مسلمو الأندلس بعد سقوط غرناطة) وظروفهم، وهو مشهد مختلف تماما عما دونه مؤرخونا، وهؤلاء كانوا في هذه القضية كمن سكت دهرا ونطق كفرا. فالأصل في المؤرخ أن يبني أحكامه على وثائق، ولما كانت وثائق محكمة التفتيش بالإسبانية، وكذلك وثائق البيع والشراء والمعاملات بين الموريسكيين (لأن السلطات أعلنت أنها لن تعتد بأي عقد يحرر بلغة غير الإسبانية)، فكان من الضروري أن يتعلم الباحثون هذه اللغة، أو أن يطالبوا الجهات الحكومية وغيرها بترجمة الوثائق. لكن بعض مؤرخينا -دون أساس علمي- راحوا يكيلون الاتهامات لمحاكم التفتيش، ويقولون إنها كانت تعدم المسلمين بالمئات في الشوارع، ثم راحوا يحدثوننا عن أوروبا الحاقدة على الإسلام التي تآمرت على الموريسكيين. 

تعالوا نتأمل عناصر المجتمع الإسباني آنذاك حتى نفهم أبعاد القضية: 

1-الملك (وهو لا يعنيه كثيرا أن يكون من بين رعاياه بضعة آلاف لا يدينون بدين الغالبية). 

2- النبلاء (وهم لا يعنيهم من قريب أو من بعيد أن يتحول الموريسكيون إلى مسيحيين: هناك وثيقة تقول إن أحد النبلاء بنى مسجدا للموريسكيين في أرضه). 

3- الكنيسة (هي الجهة الوحيدة تقريبا التي كان يهمها موضوع التنصير). 

4- العامة (وهؤلاء لا حول لهم ولا قوة، ولا مصلحة لهم في تنصير الموريسكيين. تقول الوثائق إن بعضهم كانوا يساعدون الموريسكيين على التخفي من أعين محاكم التفتيش). 

هذا يعنى ببساطة أن المجتمع الإسباني لم يكن على قلب رجل واحد، أي أن الموريسكيين لم يكونوا يواجهون المجتمع الإسباني كله. علينا الآن أن نطرح سؤالا: هل كان الإسبان يعدمون الموريسكيين بالمئات؟ أولا لم يكن هناك من له مصلحة خاصة في إعدام الموريسكيين. من ناحية أخرى فإن الجهة الوحيدة التي كانت مهمتها المحافظة على العقيدة الكاثوليكية كانت الكنيسة، ولم تكن الكنيسة -لأسباب تتعلق بطبيعة عملها- تصدر أحكاما بالإعدام، بل بإحالة القضية إلى السلطة المدنية، فهي الجهة الوحيدة التي تصدر أحكام الإعدام. أما محكمة التفتيش فكان همها الأكبر الحصول أموال الموريسكيين، وكان ذلك يدفعها الي إطالة أمد التقاضي. 

علينا أن نضع في الاعتبار أن النبلاء كانوا يبذلون ما في وسعهم لمساعدة الموريسكيين، فهؤلاء كانوا عبارة عن أيدي عاملة رخيصة، يعملون في مزارع النبلاء ويتقاضون أجورا زهيدة، وبالتالي كان الموريسكى يشكّل أحد مصادر الدخل للنبلاء، فهل من المعقول أن يقتل الإنسان مصدر دخله؟ إذن فقد كان الموريسكى يجد العون من النبلاء، وكان يجد العون من اليهود أيضا.

اليهود والموريسكيون

من الخطأ أن نظن أن محاكم التفتيش كانت تعمل ضد المسلمين وحدهم، بل الأكثر من ذلك هو أن هذه المحاكم لم تنشأ من أجل المسلمين أصلا. عانى اليهود في إسبانيا الكاثوليكية أكثر مما عانى المسلمون. يكفي أن نعرف أن اليهود طردوا من إسبانيا في نفس عام سقوط غرناطة، حين كان المسلمون يتمتعون بلائحة المدجنين التي تبيح لهم أداء الشعائر والاحتكام إلى شريعتهم الإسلامية. 

خرج اليهود من إسبانيا مطرودين في عام 1492، وتفرقوا في بلاد العالم المختلفة، خاصة المغرب وتركيا والبرتغال. خاضت إسبانيا عدة حروب في القرن السادس عشر أدت إلى احتياجها لأموال، ولم يكن هناك بد من السماح لليهود بالعودة كحل للمشكلة. كان هناك عائق قانوني أمام عودتهم، إذ كان القانون يمنع دخول اليهود إلى إسبانيا، لكن هذا العائق تم التغلب عليه بحيلة قديمة جديدة (التلاعب بالألفاظ): من الآن فصاعدا سيطلق لقب “برتغالي” على اليهودي الذي يعود إلى إسبانيا، ذلك أن معظم المطرودين اليهود كانوا يقيمون في البرتغال. 

كانت العائلة اليهودية الواحدة موزعة بين إسبانيا والمغرب، ودول أخرى. استغل اليهود ذلك الوضع لمصلحتهم، وكوّنوا شبكات مالية متعددة الجنسيات تعمل في المغرب وإسبانيا. يقول شاعرنا العربي «إن المصائب يجمعن المصابينا»، وهذا ما حدث بالضبط في إسبانيا الكاثوليكية، فقد جمعت المصائب بين الموريسكيين واليهود (وجمعت أيضا بين الموريسكيين والغجر، وهذا موضوع آخر سنتناوله في المقال القادم). كان القانون يسمح “للبرتغاليين” بالدخول إلى إسبانيا والخروج منها ومعهم أموالهم، كما كان يسمح لهم بالبيع والشراء. إزاء تعنّت السلطات مع الموريسكيين، وعدم السماح لهم بحمل أموال وهم يغادرون إسبانيا. 

استغل اليهود الوضع، وعقدوا اتفاقا غريبا مع الموريسكيين: يبيع الموريسكى ممتلكاته في غرناطة بنصف الثمن تقريبا، مقابل إيصال، ثم يغادر إسبانيا ويتوجه إلى فاس. هناك في فاس يسلّم الإيصال إلى يهودي آخر ويستلم الثمن. وهكذا استطاع الموريسكيون إنقاذ ما يمكن إنقاذه. أخرجوا بعض أموالهم من إسبانيا بمساعدة اليهود، وحصل اليهود على أرباح طائلة بعد أن اشتروا أملاك المسلمين بثمن بخس. إذن لم تكن ظروف الموريسكيين كلها سيئة، بل كانت بعض فئات المجتمع تخفف عنهم محنتهم. تحدثنا عن النبلاء وعن اليهود، وسيكون حديثنا القادم عن الغجر.


هل الرواية العربية عن فتح الأندلس صحيحة؟

هل كانت الأندلس الفردوس المفقود؟

هل حدث الفتح الإسلامي للأندلس؟

أكذوبة تخلي آخر ملوك الأندلس عن حقوق المسلمين

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s