د. جمال عبد الرحمن
اللوحة: الفنان الإسباني يوجينيو لوكاس فيلازكيز
لم تكن الصورة حالكة السواد أمام الموريسكيين في إسبانيا الكاثوليكية بعد سقوط غرناطة، إذ كان يتعاطف معهم النبلاء واليهود والغجر وكثير من العامة الذين لا مصلحة لهم في الإيذاء كما سبق وذكرنا في مقالات سابقة. لكن الصورة أيضاً لم تكن وردية، فقد كانت محكمة التفتيش لهم بالمرصاد.
المطالع للكتابات العربية عن محكمة التفتيش يجد فيها كثيرا من الخرافات، وأريد إلقاء الضوء على بعض الجوانب لعلنا نقترب أكثر من تاريخ موضوعي للموريسكيين. فمحكمة التفتيش لم تنشأ لمحاربة المسلمين، بل للدفاع عن العقيدة الكاثوليكية، وبالتالي فقد عانى من ويلاتها اليهود والمسيحيون البروتستانت قبل المسلمين.
المحكمة العادية كانت – بحكم عملها – تنتظر حتى تحيل النيابة إليها القضايا، وتقع أجور القضاة والنيابة ونفقات السجون كلها على عاتق الدولة. أما محكمة التفتيش – بحكم عملها أيضا – فهي التي تبحث عن القضايا، وليست هناك جهة محددة تنفق على قضاتها. كان المتهم هو الذي يتحمل أجور القضاة والنيابة والسجّان، بل والسجن نفسه، وكان بمقدور المتهم – الثرى بطبيعة الحال – أن يختار مكان سجنه، على أن يتحمل أجر السجّان.
أكاد أرى أن الهدف من المحكمة ليس إعدام المتهم، بل تجريده من أمواله. لاحظ أن الموريسكي الثرى كوسمي بن عامر قضى ثلاث سنوات من عمره يحاكم أمام محكمة التفتيش، وهو يتحمل خلال تلك المدة أجور القضاة والنيابة والسجن والسجان، هذا بالإضافة إلى الغرامات التي كان يدفعها، بالإضافة كذلك إلى رشاوى كان يقدمها لحاشية الملك وللكنيسة، لعلهم يتركونه وشأنه. كان الموريسكي الثرى بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا. معنى هذا أن المحكمة تعتمد عليه في تمويلها، ومن ثم فلا تلجأ إلى حكم الإعدام إلا للضرورة.
أتعجب كثيرا حين يكتب أحدهم عن إعدام آلاف الموريسكيين، فذلك لم يحدث. الوثائق، ومنطق الأمور يقولان شيئا آخر. (في كتاب عن محكمة تفتيش كوينكا نعلم أن تلك المحكمة أعدمت سبعة أشخاص في عشر سنين، وأتصور أن المحاكم في المدن الأخرى كانت تسير على الوتيرة نفسها، وهذا معناه أن الرقم الإجمالي للموريسكيين الذين أعدمتهم محكمة التفتيش بقدّر بالمئات). هذا لا ينفى أبدا بشاعة الجريمة، لأن من قتل نفسا واحدة فكأنما قتل الناس جميعا، لكن القراءة الموضوعية للأحداث مطلوبة. كانت محكمة التفتيش تلاحق الموريسكيين، لكن الوثائق تقول أيضاً إن كثيرا من النبلاء ومن عامة المواطنين كانوا يدلون بشهاداتهم لصالح الموريسكيين.
في وسط ذلك الجو، وداخل السجن، (كما نقرأ في المخطوطة رقم 9654 بمكتبة مدريد الوطنية) دخل أحد الموريسكيين في جدل ديني مع قسيس بروتستانتي سجين، وقد طلب القسيس من السجّان أن يفصل بينهما، وقال في طلبه «هذا الموريسكي كفيل بإقناع كل من يجادله بالإسلام». تقول الوثيقة إنهم “«حرقوه حيا، رحمه الله تعالى».
طرد الموريسكيين وغموضه
لم تفلح كل المحاولات في تنصير الموريسكيين، ورأى القائمون على أمر التنصير أنه رغم جهودهم المضنية فإن الموريسكيين “مسلمون كمسلمي الجزائر”. فصدر قرار الطرد، وفشل الباحثون جميعا في معرفة الفاعل. قلنا سابقاً إن الملك لا يضيره أن يكون بين رعاياه عدة آلاف يدينون بدين آخر، ورأينا أن النبلاء كانوا يجدون في الموريسكيين فلاحين مهرة يتقاضون أجورا زهيدة، وبالتالي كانوا يدافعون عنهم ولا يريدون طردهم. أما الكنيسة فلم تكن تريد الاعتراف بعدم قدرتها مستقبلا على تنصير الموريسكيين، ولهذا لم تكن تعلن صراحة رغبتها في طردهم. من الذي كان يقف وراء الطرد إذن؟ أثيرت قضية الطرد، وحاول الباحثون معرفة من يقف وراءها، لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة مقنعة. عكفوا على تحليل الوثائق، ولم يصلوا إلى شيء محدد. حتى الخطبة التي ألقاها الأسقف خوان دي ريبيرا – أسقف بلنسية “فالنسيا” – كانت أشبه بالتنصل من القرار. الأمر الغريب هو أن إسبانيا، وهي في خضم الحروب، استدعت قواتها من إيطاليا لتأمين عملية خروج الموريسكيين. يقول ماركيث بيانويبا إن ذلك معناه وجود معارضة قوية لطردهم، معارضة لم تكن القوات الموجودة داخل إسبانيا كافية لقمعها. صحيح أن قرار الطرد وقّعه الملك فيليبي الثالث، لكنه لم يكن صاحب مصلحة فيه. بل هناك ما هو أكثر من ذلك. إن فيليبي الثالث كان مدينا بحياته للموريسكيين، وقد حكى لي الأستاذ غالميس دى فوينتيس فى بيته أن لأمير الطفل ابن الملك فيليبي الثاني كان اريضا واشتد مرضه، ولم تفلح محاولات الأطباء في علاجه. هنا قال أحد المستشارين للملك: “سيدي، لماذا لا نستدعى طبيبا موريسكيا؟ ليس لدينا ما نخسره، بعد أن عجز أطبّاؤنا”. استدعوا طبيبا موريسكيا عالج الطفل الأمير، فلما مات فيليبي الثاني أصبح الأمير ملكا، أصبح الملك فيليبي الثالث، وهو الذي وقّع قرار طرد الموريسكيين. أما المطرودون فيقولون في كتاباتهم إن الله نجّاهم من ظلم فيليبي بذلك القرار وأخرجهم من إسبانيا، كما نجّى أصحاب موسى من ظلم فرعون وأخرجهم من مصر. سيجدون في تونس الملاذ الآمن والحضن الدافئ.
إذن لابد من عودة إلى تونس في مقال قادم.
هل الرواية العربية عن فتح الأندلس صحيحة؟
هل كانت الأندلس الفردوس المفقود؟
هل حدث الفتح الإسلامي للأندلس؟
أكذوبة تخلي آخر ملوك الأندلس عن حقوق المسلمين
المسلمون بعد سقوط غرناطة.. رؤية مختلفة عما دونه المؤرخون العرب