اللوحة: الفنان الإنجليزي فريدريك جودال
معتقدات مليئة بالخرافات
إن استراتيجية الخطاب المهيمنة بإحكام على بناء النص وتوجيه الأفكار وجهة محددة، لم تمكن أوليا جلبي فحسب من تحديد موقع الآخر (التابع) من الأنا المسيطرة والحاكمة للمكان، وإنما كذلك من إعادة خلق أو رسم صورة ذهنية ما لهذا الآخر على النحو الذي يخدم الهدف النهائي من تكريس علاقة التبعية. وفى ضوء ذلك بدت صورة المصريين معبرة عن تصور خاص في المخيال العثماني، حدد ملامحها أوليا جلبي بدقة، وذلك وفقاً لمنظوره الخطابي لا الواقعي بالضرورة: فهو يرى بداية أن المصريين قوم ﻻ يملكون دفع الضر عن أنفسهم؛ جراء تسلط العسكر على مقدراتهم، وهو يدعم تحليله بمقولة قديمة مستهلكة منسوبة “لكعب اﻷحبار”: “خلق الله الغنى بمصر فقال الذل وأنا معك”، موضحاً بأن هذه المقولة لا تزال صحيحة؛ ويبرر ذلك بأن أهل مصر برغم غنى بلادهم “أكثرهم أذلاء فقراء جهلاء.. ﻻ يهنئون بهذا الخير الوفير، كما أنهم ﻻ ينالون ثمرة كدهم إﻻ بشق اﻷنفس”. ومرة أخرى يرد السبب إلى طغيان العسكر. بيد أننا نجده يقع في التناقض نفسه؛ حين راح ينصح باشوات مصر بأن “المصريين ليسوا أهل مسكنة، وﻻ يُحكمون إلا بالقوة والجبروت”؛ وأنه يتعين على كل وزير أن يكون “ذا شوكة وثراء وسطوة”. وفى غير موضع راح يشدد على طبيعة التمرد عند المصريين والتي ردها إلى السلالة الفرعونية وإلى شربهم ماء النيل!؛ وكالعادة يطلق أحكامه التعميمية اللامعقولية: “فكل من شرب من النيل ثلاثة أعوام انقلب جبارا عديم الشفقة ولو كان تركيًا” وتتجاوز هذه المبالغة حدود المصريين وكل من خالطهم لسنوات وشرب ماء النيل، حتى الحيوانات تصاب بداء التمرد ذاته؛ كنتيجة لشربها منه: “فالخيول الشاربة من ماء النيل شرسة بطرة (متمردة) ترفض السير إلى بلاد أخرى”!.
مياه النيل بين جلبي والرحالة الغربيين
ولسنا في حاجة إلى التأكيد على أن مثل هذه المقولات المبالغ فيها لا تؤكدها وقائع ولا شواهد من أي نوع، لكن هذه الصورة التي رسم ملامحها أوليا جلبي تظل لها دلالتها؛ إذ تظهر بوضوح أحدى سمات البعد الشعبي في كتابات أوليا جلبي وأفكاره ومعتقداته المليئة بالخرافات والغيبيات ورؤى الأحلام وما إليها، وهو بالمقاربة مع أدبيات مناظرة؛ مثل أدبيات الرحالة الأوربيين المعاصرين له، تكشف منذ الوهلة الأولى مفارقة في مستوى الكتابة وأساسيات التفسير: فالطابع العقلاني في التفسير للظواهر الاجتماعية والثقافية، إلى حد كبير، هو السمة الغالبة على تلك الكتابات؛ وربما مثال مياه النيل يمكن أن يوضح عمق التباين في مستوى تقنيات الكتابة والتحليل؛ ففيما نسج أوليا جلبي حول مياه النيل أسطورة صاغتها بالأحرى تهويماته الخاصة أو نزعته الاستعلائية، والتي تروج لتفسير ما اسماه “طبيعة التمرد” ربطاً بشرب مياه النيل، نجد الرحالة الأجانب يبدون اهتماماً بفهم الدور الذي يمثله النهر في حياة المصريين، والأهم أنه استوقفتهم طريقة المصريين في تنقية المياه، عبر وسائل تقليدية، لكنها وجدوها فاعلة في نتائجها، ومن بينها اعتمادهم على التنقية بأسلوب الترشيح والتبريد باستخدام الجرار الفخارية، ووضع نوى البندق المر أو لب نوى المشمش فيها الذي يساعد على ترسب الطمي وصفاء الماء، والتأكيد على أنه لا يوجد أي تأثير سلبي ضار يمكن أن يلحق بأحد جراء الإكثار من شرب هذه المياه.
أياً كان الأمر، فمن الواضح أن أوليا جلبي حاول تصدير فكرة “التابع المتمرد” الذي يتعين السيطرة عليه بالقوة؛ ليهيئ مخيلة قارئه أن إطلاق نعوت من قبيل “التجبر/ الغلظة/ التمرد كمفردات إنما تجسد طبيعة المصريين التي يتعين تهذيبها، ومن ثم تتحقق بعض أهداف الخطاب العثماني في تموقع “المصري التابع” في منزلة أقل من الذات التركية الحاكمة، وإذا ما استخدمنا الاصطلاح الشهير لـ “تزفتان تودوروف”: “المهيمنات الموجهة” في النص، فإن هذه الأفكار كانت محورية في صياغة صورة الآخر مادياً وروحياً على مستوى الأخلاق والعلم والجهل والصدق والقيم وطبيعة المعاملات.. إلخ؛ بما يدعم الاختلاف ويؤطر لموقع “الأنا العليا الحاكمة” من الرعايا العثمانلية (التابعين).
أهل مرح وبهجة
وتحت هيمنة هذا الخطاب، تصير عملية تطويع المصريين فى مجالى اﻹنتاج والخضوع واﻹنصياع للسلطة، فى حاجة إلى حكام أشداء يتحكمون فى توجيه المجتمع فى خدمة مصالحهم. وهو يدعم نظريته من خلال الذاكرة التاريخية: إن مصر كانت دومًا مغنمًا للطغاة “فكل من تغلب عليها صار حَاكمها، وحُكامها متغلبون منذ يوسف عليه السلام”، وهكذا فإن تاريخ السلطة المستبدة والطغيان وعلاقته بثراء مصر كان متجذرًا فى ذاكرة المثقفين اﻷتراك أمثال أوليا جلبي، كنتيجة لاطلاعهم على كتب التراث التاريخى المصرى، والذى يجد انعكاسه واضحًا فى اقتباس المقولات المأثورة الشائعة والمتكررة التي ما فتىء يُقحمها فى نسيج مسروداته؛ وفى مقدمتها مقولة: “أن مصر نيلها عجب، وأرضها ذهب، وهى لمن غلب“.
وفى مقابل هذه الصورة السلبية التي تتعمد تجريد المجتمع من إمكانات المحافظة على الذات وشحذ مقومات الهوية، نجده يرصد جانبًا إيجابيًا فى طبيعة المصريين، تلخصه خاصيتين أساسيتين: اﻷولى أنهم أهل مرح وبهجة، يتغلبون على أحزانهم وكروبهم بالفكاهة والمرح والبحث الدائم عن وسائل الفرح والسرور، ومرة أخرى يفسر طبيعة المصريين المرحة بأنها تعود إلى أسباب خارجة عن إرادتهم أو طبيعتهم، إذ ينسبها إلى الموقع الجغرافي لمصر وانتمائها إلى كوكب الزهرة الذى يرى أنه السبب فى تلطيف طبيعتهم القاسية! وكأنه يؤكد بطريقة مختلفة نظريته في تفسير طبيعة التمرد الدائمة عند المصريين التي لا تخفيها الطبيعة المرحة!.
استيعاب الآخر
أما الخاصية الثانية فيحددها بقدرة هذا البلد على استيعاب اﻵخر، بصرف النظر عن ثقافته وجنسه وديانته، وهذا ما يفسر فى تقديره كثرة تعدد اﻷجناس والأعراق التي حصرها بـ 70 عرقاً يتحدثون 140 لغة”. وأن الإرادة الإلهية هيأت لمصر أن يعيش بها كل “هؤلاء الخلائق فضلاً من الله ومنة”. ولا يخفى أن مثل هذه البيانات كانت ترمي إلى التأكيد على غياب وجود نسيج واحد يجمع المجتمع المصري، وأن الرعية في مصر عبارة عن خليط من الأعراق والثقافات؛ ومرة أخرى يذكرنا ذلك بمقولات أساسية ترددت بحذافيرها بعد ذلك بقرنين في الخطاب الكولونيالي السائد منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ فاللورد كرومر – على سبيل المثال- في كتابه الشهير “مصر الحديثة” طرح الفكرة نفسها بطريقة ربما أكثر صراحة ومباشرة، بدءاً من تساؤله: من هو المصري الحقيقي؟، معتبراً أن هذا السؤال من الصعب ايجاد إجابة حاسمة عليه؛ لأن “السكان في مصر” – وهو عنوان أحد فصول الكتاب – عبارة عن “خليط” من الشعوب والأعراق الأخرى، وهو يصدر اصطلاح “الشرقي” كبديل يمكن أن يشكل مظلة تجمع هذا الخليط من البشر، وبعد هذا التشكيك في وجود “أمة مصرية” في الأساس، ينتهي إلى أن فكرة أن مصر يقطنها المصريون أمر جائز على سبيل الافتراض! وهكذا فإن تصدير أوليا جلبي لفكرة تعدد الأجناس والثقافات واللغات في مصر، إنما هو أحد مستهدفات الخطاب العثماني التي تروم إثبات أن مصر ولاية لا يملكها أحد، ولا تنتسب لأمة لها مقومات مستقلة، في حين عبر تفعيل التفاوت والمقابلات، يعلو الحديث عن “أمة الروم” ذات “العرق الطاهر”.
- «سياحتنامة مصر».. قراءة نقدية لأبعاد الخطاب العثماني
- «سياحتنامة مصر».. بين التقرير السياسي وأدب الرحلات
- أوليا جلبي وشرعية «غزو مصر» في الخطاب العثماني
- أوليا جلبي وصياغة أسطورة الفتح العثماني «المقدس» لمصر
- «سياحتنامة مصر».. من “شرعية الغزو إلى شرعية الحكم ونهاية التاريخ