اللوحة: الفنان الإنجليزي فريدريك جودال
تحدثنا ُفي المقال الماضي كيف أن بيوت البكوات والأثرياء أصبح فيها قاعات متعددة للاستقبال، بحيث تتسع لعدد كبير من الضيوف، وكان يقدم في هذه القاعات الطعام والقهوة كل يوم، وكيف أن المقاهي الموزعة على الأحياء الرئيسية في المدينة كانت متنفساً اجتماعياً ومكانا بديلا لأصحاب البيوت المتواضعة للتلاقي والاجتماعات.
أدوات القهوة والبخور
كانت طريقة إعداد القهوة ذاتها تختلف من فئة اجتماعية لأخرى جعلت مستشرق مثل إدوارد لين يتوقف عندها، ويهتم بشرح التباين فى طريقة تحضيرها لدي الطبقة الوسطى والغنية، فقد لاحظ «أن الميسورين من المصريين يُطعمون قهوتهم أحيانًا بشذا العنبر، فيعمدون إلى إضافة بعض منه في وعاء القهوة.. ويعتمد هذه الطريقة كل من يتذوق شرب القهوة مُطعّمة بهذه النكهة العطرة؛ وهم لا يُشركون كل زائريهم بهذه الحظوة». وفى المقابل كان من المستهجن تماما إضافة السكر إلى القهوة؛ إذ كان ذلك يثير السخرية؛ وكان العنبر وماء الورد من المواد التي عادة ما تقترن بتقديم القهوة فى واجبات الضيافة بقصور الباشاوات وبكوات المماليك. وربما كانت أصول هذه الممارسة منقولة عن الأوساط الصوفية التى كانت تحرص على تقديم القهوة «المجوهرة المطنطنة» بتعبير أوليا جلبي، مصحوبة بنثر ماء الورد وماء البخور وغيرها من المياه العطرية المعبأة فى قوارير خاصة، مع حرق «العود العنبرى» فى مباخر تتعطر بعطره أدمغة المريدين عشاق الطريقة. ومثلما كانت القهوة يُضاف إليها شيء من العنبر لإكسابها نكهة خاصة، كان أجود أنواع التبغ يُخلط كذلك بقطع صغيرة من العنبر، فضلاَ عن إضافة ماء الورد إلى النرجيلة، فيكون الدخان عندما يحترق التبغ والعنبر بقطع الفحم الصغيرة عطرى الرائحة محبوبًا فى الشم.
وتعددت استخدامات العنبر خلال استعراض واجب الضيافة؛ فلم يقتصر على إضافته للقهوة والتبغ فحسب، ولكنه استخدم كذلك كأحد أبرز مواد التبخير(التي تفوح منها رائحة زكية)، يحرص الأغنياء على إضافته «للمبخرة» التي يعمدون تركها لآخر الزيارة، فيحملها الخادم أو سيد المنزل الذى ينفخ الدخان فى وجه ضيفه ولحيته بيده اليمنى، وذلك بعد الانتهاء من شراب القهوة والدخان. ويشير لين إلى أن «العنبر يُقتصر استعماله على منازل الأغنياء والميسورين لغلاء ثمنه».
فنجان زينب بنت محمد علي باشا
والملاحظة نفسها يقدمها لين بالنسبة «للظرف» الذى يوضع فيه الفنجان، وكذا الحال في نوعية «إبريق القهوة» الذي إما أنه كان مصنوعًا من النحاس أو الفضة، ومرد التباين – على حد قوله – إلى «الظروف المادية لصاحب الفنجان». وأشار كلوت بك إلى أن ظرف الفنجان قد يصنع من الذهب أو الفضة، وقد يحرص الأغنياء أحيانًا على ترصيع ظروف الفناجين بالأحجار الكريمة، بينما عند الفقراء يكون الفنجان من الخزف الصينى والظرف من النحاس. واسترعت الملاحظة نفسها انتباه صوفيا لين؛ وذلك لدى زيارتها لعائلة حبيب أفندى (حاكم القاهرة سنة 1835) فكتبت تقول: «قُدِمَت القهوة فوق صوان من الفضة، وكانت كالمعتاد فى أقداح صغيرة من الصينى وضعت فى حوامل على شكل كؤوس البيض، ولكن هذه لم تكن كمثيلاتها فى البيوت العادية بسيطة أو مصنعة من خيوط الفضة المتشابكة، ولكنها كانت مرصعة بالماس. وكانت بالطبع أنيقة وقيمة جدا، أكثر من كونها جميلة. إذاً فدلالة وجود فصوص الماس والجواهر الثمينة حول الفناجين كانت علامة ترمز للثراء وللطبقة الأكثر ترفاً مثلما كان النحاس والفضة المتشابكة تدل على الطبقة العادية البسيطة والمتواضعة. ومن واقع زيارتها لسمو الأميرة زينب (صغرى بنات محمد علي باشا)، تلفت السيدة صوفيا الانتباه كذلك إلى أن التقليد الراقى فى تقديم القهوة فى «الحريم العالى» كان يقضي بأن يتم تمييز فنجان السيدة الأكثر أهمية فى الديوان، حيث كان من المتعين أن يفوق فنجانها كل الفناجين الأخرى إبداعًا وجمالاً ؛ ففنجان القهوة الخاص بسمو الأميرة زينب تميز برص فصوص الماس بطريقة حلزونية ماهرة على طبقة دقيقة الصنع من المينا!.
أوعية الفقراء من الصلصال
ومما له دلالاته أن المعاصرين كانوا ينظرون إلى أن مجرد امتلاك الفرد لمثل هذه الأدوات الخاصة كان علامة على الثراء!: فنقرأ فى «ابن عبد الغنى» أن عرب أهل طهطا (نحو عام 1729) صاروا «أغنياء بعد أن كانوا فقرا» لمجرد أنهم صاروا يطبخون فى أدوات، مثل «الطناجر والقزانات النحاسية، وبكارج القهوة والطشوت والأبارق وصحون النحاس والصوانى»، وهى الأدوات التى كانوا قد استولوا عليها من المماليك. والمعروف أن الأوعية المستعملة لدى فقراء الطبقة الدنيا كانت عبارة عن آنية من الصلصال.وبداهة ليس الاستحواذ على مجموعة من الأدوات النحاسية وحده يقيم دليلاً على تغير وضع فئة اجتماعية من مرتبة إلى أخرى أعلى منها، ولكن المقصود بالطبع، دلالة التمظهر بمجاراة النخبة أو محاكاتها فى استخدام ذات الأدوات النحاسية غالية الثمن التى اُعتبِرَت أحدى المؤشرات المادية الفارقة بين المجموعات الاجتماعية، وربما بالقدر نفسه حمل سلوكهم نوعاً من التمرد فى كسر احتكار بعض وسائل التميز النخبوى لطبقة العسكر وكبار الأعيان.
وكل هذه الإشارات وغيرها توضح فى التحليل الأخير إلى أى حد يمكن اعتبار طقوس القهوة ونوعية الأدوات المستعملة، ووجود خدم مخصوصين ينهضون بالمشاهد الاستعراضية حول فكرة «واجب الضيافة» – واحدة من معايير التصنيف الاجتماعى، والتمييز المادى والمظهري للفئة الأكثر ترفًا وحظوة فى المجتمع، والتى كانت تحتكم على مصادر دخل متنوعة، استطاعت من خلالها تأمين وتغطية جميع أوجه «الإنفاق الشرفى» التى كانت تعبر عن هويتها الخاصة من خلال ما تصطنعه من مسافات اجتماعية مفتعلة لغرض تأكيد المكانة والوجاهة الاجتماعية.
دكتور ناصر إبراهيم
استمتعت جدا بما عرضته في هذا الباب، إضاءاتك تستحق التوقف والدراسة.
شكرا جزيلا لك.
إعجابLiked by 1 person