آداب وطقوس صارمة في تقديم القهوة وتناولها

آداب وطقوس صارمة في تقديم القهوة وتناولها

د. ناصر أحمد إبراهيم

اللوحة: الفنان الإنجليزي جون فردريك لويس

ارتبطت بالقهوة آداب وطقوس معينة، فهي ليست مجرد مشروب عادى يقدم للضيوف، وإنما كان لها خصوصية في تقديمها،تكشف عنه بوضوح الترتيبات الدقيقة التي حُدِدَت في تقديمها، والتي لم يسمح لأحد من الخدم بإحداث هامش من التجاوز العفوي؛ لأنها في النهاية عبرت عن مكانة صاحب البيت ومنزلته في الوسط الذي كان ينتمي إليه. وكانت الأدوار محددة بدقة بالغة، فيخبرنا الأب فانسليب، على سبيل المثال، بأن ثمة أربعة من مقدمي القهوة، كل منهم كان مسئولاً عن دور في الاستقبال والاحتفاء بالضيففبينما يتولى اﻷول منهم توصيل الضيف إلى قاعة فسيحة ومنمقة (السلاملك)، وتبخير المكان قبل تقديم«خدمة القهوة»، يقوم الخادم الثانى بتقديم فوطة من الحرير، ليضعها الضيف على حجره، ثم يقدم له القهوة في فنجان منالبورسلين (الخزف) الفاخر أو فنجان مصنوع من الفضة المذهبة، ويأتي الخادم الثالث وينزع عن الضيف فوطة القهوة، مقدمًاله «الشربات» الذي عادة ما كان يلى شرب القهوة ومصحوبًا بفوطة جديدة، يضعها أيضًا على حجره، أما الخادم الرابع واﻷخيرفدوره  يقل أهمية عن سابقيهفهو الذي يتولى غسل يدى الضيف بماء الورد، ثم يناول الضيف فوطة أخرى لتنشيف يديه، ثميتولى رش لحيته ووجهه بالماء المعطر، وأخيرًا يأتي بأعواد البخور ويبخر المكان مرة أخرى.

طقوس واحدة في القاهرة واستنبول

وهذه الصورة الرائعة من الآداب التي كانت شائعة لدى جماعات النخبة المعتبرين بالقاهرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، نجدها تتكرر في استانبول بالترتيب ذاته، مما يفترض معه أنها كانت أصولاً تقليدية شائعة في أوساط النخبة التركيةالمملوكية على وجه الخصوصفقد رصدت ثريا فاروقي في دراستها عن «رعايا السلطان العثماني» المشهد نفسه في بلاطالصدر اﻷعظم في القرن السابع عشر، وذلك حينما استقبلت زوجة الصدر اﻷعظم زوجة أحد السفراء اﻷوربيين: فتم تبخيرالمكان قبل تقديم القهوة، وقدمت القهوة خادمات من الجواري، وهن جاثيات على ركبهن، وبعد اﻻنتهاء من شراب القهوة،قامت فتاتان منهن بتعطير شعر ماري ـزوجة السفيرـ وكذا تعطير ملابسها ومنديلهاوثمة تقرير آخر لزائرة أوربية، تُدعى «الليدي ماري ويرتلي مونتجيو» تمكنت (في عام 1717م) من عمل زيارة للسيدة «قهرمان» زوجة السلطان أحمد الثالث، واصفة أرفع صور الضيافة التي استقبلت بها: على أريكة ترتفع عن مستوى الأرض بثلاث درجات، ومغطاة بسجاد فارسي بديع، جلست زوجة «الكتخدا» متكئة على حشيتين من الأطلس الأبيض المطرز، وعند قدميها جلست فتاتان يافعتان.. جميلتان كملاكين، في ثياب فاخرة، وتقريبًا مغطاة كليًا بالمجوهرات.. قامت لاستقبالي، محيية إياي بطريقتهم، واضعة يدها على قلبها في لطافة زاخرة بالجلال.. ثم أمرت بتقديم حشايا لي، واعتنت بإجلاسي في الزاوية، وهو موضع التشريف.. واصطفت جواريها الحسان تحت الأريكة، وقد شارف عددهن العشرين، وكن يقدمن لي القهوة راكعات علي ركبهن في فناجين صغيرة مطلية بالفضة من أجود أنواع الصيني. 

كذلك تخبرنا المصادر الأدبية بصورة مشابهة كانت تجرى في بيوت كبار العلماء في القاهرة، تتقارب نسبيًا مع ما كان سائدًا في أوساط النخبة العسكرية، وإن تميزت طريقة التقديم بقلة المبالغة في استعراض الأبهة والثراء وقوة النفوذفالنابلسي (أحد أبرزفقهاء الشام، والذي زار مصر في سنة 1110 هـ / 1698محين نزل ضيفًا على الشيخ البكري (شيخ السجادة البكرية ونقيباﻷشرافكتب في يوميات رحلته أن هذا الشيخ كان له جماعة خاصة يخدمونه، قدموا له القهوة والسكر، كما جاءوا إليه بالبخور والعطور في أعقاب شرب القهوة. كذا استوقف اوليا جلبى ما شاهده على موائد الشيخ البكرى نفسه، وذلك في «المولد» الذي اعتاد السادة البكرية إقامته في كل عام، فقد لاحظ وجود سبعين إلى ثمانين خادمًا يقومون بتقديم المشروبات في ألوان من الأوانى الفسفورية المُطعمة بالجواهر الكريمة والكؤوس المنبتة، وحتى مجامر العنبر والبخور كانت مرصعة بالجواهر كذلك.

الجمع بين القهوة والشربات والبخور

وفكرة الجمع بين «القهوة والشربات وقماقم البخور» أساسية، ومشار إليها في كتاب الطريقة والأدب الذي يُحدد بها طريقة استقبال الضباط العثمانلية وقيامهم بالتشريفات المختلفة. وقد أكد أيضاً الرحالة سافارى Savary (زار مصر بين عامى – 1776 1779) في خطاباته على هذه الطقوس عينها، التي كانت محل مراعاة واهتمام بالغ داخل البيوت الكبرى للأعيان والأمراء، مبيناً كذلك أهمية «المبخرة الفضية»، وما يفوح منها من روائح ذكية؛ جراء حرق أفضل أنواع البخور بها.

وتفيض مصادرنا الأدبية في القرن التاسع عشر بمعلومات دقيقة حول آداب تقديم القهوة، ومن ذلك ما لاحظه كلوت بك من الحرص الزائد بشأن التعليمات المعطاة إلى مقدمي القهوة وإلزامهم بمراعاتها بكل اهتمام وتدقيق، وذلك خلال تقديمهم لفنجان القهوة أو حين يأخذونه من الحضور بعد فراغهم منه: فقد كانوا يصبون القهوة في الفناجين ثم يقومون بتقديمها إلى الحاضرين ممسكين الظرف من أسفله بأطراف الأصابع، فيتلقى الزائر الفنجان بالقبض على الظرف بالإبهام والأصابع الثلاثة التالية له من اليد اليمنى. وحين أخذ الفنجان بعد فراغه، يتلقوه بطريقة تشبه التي يقدمونه بمقتضاها رقة وأدباً؛ وذلك أن الفنجان لما كان لا يحتوى على بروز خارجى فإنه حينما يتلقاه يفعل ذلك بحركة لطيفة بوضعه يده اليمنى على فتحة الفنجان وتركيزه قاعدة الظرف على يده اليسرى.

تقدم القهوة لصاحب المنزلة الأعلى أولاً

كان على الخدم أن ينتبهوا جيداً إلى ضرورة مراعاة الفروق الاجتماعية بين السادة الحضور؛ إذ كان يتعين أن يقدموا القهوة في أول الأمر إلى الشخص الذي يؤهله مقامه أو رتبته أو ثروته لأن يحوز شرف الأسبقية على غيره في الخدمة، وإذا وُجِدَ بين الحاضرين أكثر من واحد يستحقون هذا الاعتبار فإن فناجين القهوة تقدم إليهم في آن واحد وعليهم قبل تناول الفنجان الذي يُقدم إليهم أن يحيوا بعضهم بعضاً. أما إذا كان الزائرون أحط مرتبة من مضيفهم، فلا يصح تقديم القهوة إليهم إلا بعده بحسب ترتيب مجالسهم منه، والواجب عليهم في هذه الحالة أن يحيوا صاحب البيت بالإشارة قبل تناول الفنجان، وكلما تلقى تحية أجاب عليها برفع فنجانه إلى موازاة وجهه. كذلك قضت التقاليد بأن لا يُبادر ببدء الشراب بين الضيوف إلا مَنْ كان أعلى مقامًا ومكانة؛ من ذلك ما أشارت إليه حرم الخديوي الأميرة جويدان هانم في مذكراتها، وذلك بمناسبة حضورها لحفل زواج دُعِيت إليه: «ما إن جاءت القهوة تحملها قهوجى كلفا حتى قدمتها جارية إلى الهوانم وهي خافضة الرأس، ثم اتجهت كل الأنظار لى؛ لأن التقاليد تقضى بأن أكون أولى البادئات بشرب القهوة وهن من بعدى». والأمر بالنسبة لشرب الدخان كان فيما يبدو أكثر صرامة؛ فالمبادىء الرسمية قضت «بمنع الناس من التدخين أمام الخديوي حتى ولو سمح لهم بذلك».

آداب شرب القهوة

ولا ينبغى في شرب القهوة أن تشرب إلا مصاً بطرف الشفتين ومن غير إمالة الفنجان، ومن يريد من الحاضرين إظهار الاحترام (المزور لمضيفه) باعتبار كونه أرفع منه شأناً فعليه أن يتحول برأسه عنه تحولاً خفيفاً وأن لا يشرب من القهوة إلا الشىء اليسير منها. وحين يرد الفنجان يقتضى ابتعاد الذراع ابتعاداً خفيفاً عن الجسم، مع إبداء «التحية التقليدية المتبعة» للمضيف أو لأهم سيد (أو سيدة) يتميز بمكانه الخاص على الديوان. وأن لا يصحبه كلام مع الخادم، وإنه متى تناوله هذا الأخير منه يؤدى بإشارة التحية كما أداها وقتما قدم إليه. وبحسب ما ذكره كلوت بك «كان لا يجوز التحدث مع رب البيت في عمل إلا بعد شرب القهوة، فإذا ابتدره الزائر بالحديث في المصلحة التي ساقته إليه قبل ذلك، كانت هذه المسارعة تهجماً لا مبرر له، بل مسلكاً لا يليق بالمتأدبين».

وكانت القهوة تشرب في صمت ورزانة بالغين، وهي خاصية مميزة لجماعة الصفوة، وعلى حد قول «دي شابرول»: «إن الصمت والاحترام وقت تناول القهوة كانا علامتين ملازمتين للعظمة والوجاهة»(١). وقد ذكر نوبار باشا في مذكراته أن «أصول الإتيكيت» كانت تقضى بأن تشرب القهوة ببطء وعلى مهل، وأن يجرى خلالها الحديث الأكثر هدوءاً في العالم. ولجويدان هانم زوجة الخديوي وصف رائع له دلالته في هذا الصدد كذلك: ففي حضرة خديوي مصر كان شرب القهوة وتبادل الأحاديث الرسمية يتم «بأصوات خافتة كأنها آتية من مدى بعيد». وحين كان يحلو لها الخروج عن صرامة التقاليد الرسمية، خلال لحظات اللهو الخاصة جداً بينها وبين الخديوي كانا يتعمدان شرب القهوة على حد قولها: «بصوت عالٍ جداً كما لو كنا من العامة». إن الهدوء والسكينة وخفوت الأصوات في مجالس شرب القهوة كانت سمات أساسية لما عُرِفَ «بالقهوة الراقية». 


(١)تبدو ملاحظة رالف هاتوكس ذات مغزى من أن الحمام العمومى اتاح للنساء فرصة الالتقاء والتجمع مع رفقائهن مثلما قدم المقهي لمجتمع الرجال الفرصة في انفاق جزء مهم من الوقت في تحقيق الاتصال والتفاعل الاجتماعى مع فئات متنوعة. 


اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s